ماكينة الصورة في البيت
ضحكات الشهداء في النور
الصورة في التاريخ الإنساني مادة بصرية تحرك المشاعر مباشرة دون وسيط، وهي الوسيلة الأنجع للتواصل بين الكائنات، انها المحور الرئيس في إيصال الفكر السياسي ورسائل الجماعات والسلطات، كمادة للإقناع في الفكرة المراد ايصالها، ولعبت الصورة في عالمنا المعاصر وما زالت تقوم بدور خطير في اقناع الجماهير او صناعة الرأي العام الصحيح والمزيف على حد سواء، ففي عصر العولمة والأنترانت لها الدور الأخطر كجزء من الحرب وصولا إلى الحرب السيبرانية، فأصبحت وسيلة نتخاطب بها بدلا عن الكلمات، بكونها الأكثر تأثيرا في النفس وأبلغ وقعا في ذهن المتلقي، وبذلك استطاعت ان تفتح أفاقا وسيعة في عالم اليوم، وتسهم في تشكيل وعي من نوع خاص وصولا إلى تغيير البنى السلوكية في كل بقعة في العالم.
فالصورة أداة مفهومية تخضع للتأويل حسبما تقتضيه الحال ووفق طبيعة المُخاطب، فهي تتجاوز الواقع عبر المبالغة والتضخيم، فهي بمثابة حشود دلالية تحملها الصورة وتسعى إلى ترسيخها في ذهن الجماهير.
فلم نعطيها الاهتمام اللازم لتوصيل خطابنا الحضاري عبر مؤسسات وازنة ومحترفة، في الأثناء كان عدونا يصنع على مهل امبراطورياته الإعلامية في العالم وينسجون ملامح الصورة التي يرودونها، ونحن غياهب المناكفات السياسية والتبرج أمام المرآة، نتغزل بمنجزات تسيح في أول سطوع للشمس، لم نحلم أبدا بأي فعل قيادي في العالم سوى أننا نمارس الفرجة بدهشة إنجازاتهم، فالحرب الشرسة على غزة كشفت سطوة الصورة التي تصدر للعالم بأكمله فكان لها ما تريد في تشويه الضحية، حيث تقتل الضحية نفسها وكذلك تدين نفسها لأن جلادها يقف خلف الشاشة، فصراخ الضحية ليس سوى صوت في قبو سكنته الأدخنة، ويتحول الكلب المشوي في إعلامهم إلى طفل، والذي لا يمكن نكرانه أن ما فعلته المقاومة هو أقرب إلى أسطورة العصر الحديث، إنجاز ليس له روافع ولا حاضنة من أي نوع، عار يتحرك في فراغ الفكرة سوى من ايمان بحق أصبح ينسرب في صالونات سياسية باهتة، يناقشون ملامح الحلول التي تبحث عن مبررات للقاتل بل يذهبون في سياق تسمين الضحية كي تحتمل مزيدا من الموت.
يشير عمير مزروخ إلى صدمة الفكرة التي أنجزتها المقاومة بقوله: "قد لا يكون الكماندوز الإسرائيليون على علم بأن أعضاء في أسطول غزة الحرة كانوا يحملون السكاكين والقضبان المعدنية، ولكن ينبغي أن يكونوا على علم أن كثيراً منهم في الأسطول كانوا مسلحين بالكاميرات، والهواتف الخلوية، والمدونات الإلكترونية، بالنسبة لبلد متقدم جداً تكنولوجياً، ومع التحديات الجسيمة للدبلوماسية العامة، أن تفشل فشلاً ذريعاً في إعداد الاتصالات الهجومية على وسائل الإعلام الجديدة هو فشل استراتيجي".
والحقيقة الجوهرية كانت في الشارع العربي الذي عبّر بلا مواربة عما يحلم به من نصر، فكان النهر البشري يسيل إلى أطراف فلسطين، وتعلو أصوات الشعب العربي المجروحة، حناجر تكدس فيها الخسران، فكادت أن تنسى عزة النصر، وما أفسد الصورة هو تهشيمها وعقلنة الفعل الإجرامي الذي وقع على المكان والإنسان، إجرام يطحن التراب باللحم، أعتقد إننا أمام مواجهة تاريخية لحصد مكتسبات المقاومة وإيجاد طرائق ناجعة للجم هذا العدو المسعور والمتشوق للدم.
ما راقبته في الفعل الإعلامي العربي الذي كان في الغالب محليا، والذي ساهم في تثوير الشعوب كذلك لكنه لم يكن على مستوى التأثير العالمي فقد سبقنا العدو لذلك بكونه يمتلك مفاصل الشبكة العنكبوتية وبتنا في مصاف التلقي فقط باستثناء بعض الفضائيات منها "الجزيرة" بشقيها العربي والإنجليزي، هي حرب لطحن الصراخ وحرب للصورة بامتياز، وما ورد في النيويورك تايمز يكتب براين ستلتر: "إنها حرب صور بين جانبين، انتصرت فيه "قناة الجزيرة" على الجيش الإسرائيلي؛ لأنها سبقته عشر ساعات بسرد القصة بالصور، رغم أنه ليس من الواضح أي مرحلة من الأحداث تمثلها تلك الصور من كلا الجانبين، فالصور الأولى شاهدها ملايين لا حصر لهم، فيما لم تحصد صور الجيش الإسرائيلي سوى 600 ألف من المشاهدات، بعد مرور 24 ساعة من بثها".
فانتبه العدو إلى ذلك ليقلب المعادلة في بث غابة من الصور المزيفة صانعا اربكا بين شعوب العالم الغربي، فالأشياء لا تحدث إذا كانت غير مرئية، استطاع العدو أن يشوش الصورة، وأصبح الواقع أكثر خيالا من المخيلة نفسها، وأشار إلى ذلك بورديار بقوله:
"كدنا أن نقول إن الحقيقة أصبحت غيورة من الخيال وأصبح الواقع غيورا من الصور"
فالحرب الآن لمن يمتلك أنساق ومسارات الصورة وكيفية صناعتها بما يتوافق مع أهداف السلاح، وهي التي تشكل المشهد النفسي للحشود، فقد تفوقت الصورة في الإقناع على السلطة، ونحن في زمن الديستوبيا الإعلامية لا بد من صناعة مناخ جديد يسهم في التأثير على الحشود كجزء من المقاومة والمكاسب في جميع مناحي الحياة.
فالضحية تحتاج في زمن الديستوبيا إلى توضيح الدم المراق، وأن توضح أيضا سحائب الدخان حتى لا نعتقد أنها لمجموعة من المدخنين للسجائر المستوردة، سوريالية يقترفها العدو تفوق حدود المعقول في انحراف العالم نحو باطل بائن.