دروس التاريخ المجيد في أرض الجغرافيا الخالدة
الدكتور موسى الرحامنة
17-10-2023 08:47 AM
تجري الاستعدادات على قدم وساق لشن هجوم بري وشيك واسع النطاق على شمال قطاع غزة مدعوماً من الجو وبمباركة بريطانية أمريكية؛ وسيكون الرهان على المواجهة وجهاً لوجه؛ وقد استعد مقاتلو المقاومة الفلسطينية لمواجهة الاجتياح؛ بعد أنْ صمدوا أمام القصف الجوي الجبان ويظن الضعفاء المهزومون أن قوى معادلة هذه الحرب غير متكافئة وأن الخسارة لا محالة هي الحظ الاوفر للأضعف؛ وتناسى الجمع المخذول قول ربنا تبارك وتعالى: " الذين قال لهم الناسُ إنَّ الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل" وقوله تعالى " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" .
نعم؛ تمتلك إسرائيل ترسانة عسكرية متفوقة جداً وتكنولوجيا متقدمة؛ ووفقاً للأدبيات والحسابات التعبوية فإن هذه القوة قد تحقق لها التفوق في أي معركة تخوضها في منطقة الشرق الاوسط. ولكن هذه الترسانة؛ ستغدو ضرباً من الوهن بافتقارها لعامل مهم وحاسم وهو أنها بأيدٍ جبانة مرتجفة لا تقدرُ على المواجهة، وتقاتل بلا هدف؛ وكأنما تُساق الى الموت وهي تنظر؛ ولو كانت إسرائيل لوحدها في الميدان لدحرتها فصائل المقاومة منذ أمد بعيد؛ فاللهُ معها ومن كان الله معه فمن عليه؟ حركة المقاومة الإسلامية اتخذت من الله شعاراً ولا تنتظر عوناً من غير الله؛ بعد أن تكالبت عليها قوى الأرض وخانتها سيوف بني العم؛ وألَّبَتْ جيوشَ الظلام عليها؛ والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ولنا في القصص القرآني أكبر عبرة يقول تعالى: " ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبّت اقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين؛ فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء.." .
ولقد أثبتت المقاومة الباسلة بعمليتها الأخيرة والتي كانت خاطفة سريعة؛ كسرت فيها خشم العُقاب ومرَغته في التراب؛ وفعلت فعلتها فيه؛ أنها قادرة على أن تفعل الكثير، وأن تبقى مصدر القلق والهلع والازعاج لهذا العدو، بعد أن افشلت منظومته الأمنية والاستراتيجية، وافقدته خصائص الأمن الشامل المزعوم في المستوطنات وجميع الأراضي التي يستحوذ عليها؛ وستبدأ هجرات المستوطنين العكسية إن لم تكن قد بدأت بالفعل، بعد أن أقضّت المقاومة مضجع الشعب الإسرائيلي اللفيف وأصبح الخوف والرعب ينيخ مطاياه عند عتبة كل بيت يهودي في إسرائيل؛ لم تكن أبداً تلك الهجمة المباغتة - على بدائية وسائلها في مقابل آلة العدو وترسانته الضخمة – في دائرة الحسبان والتخمين؛ وكانت نتائجها مذهلة كبدت المحتل خسائر أفقدته صوابه ومن معه من قوى الظلام؛ فشكّل حكومة طوارئ ومجلسا للحرب وراح يشن حرباً شعواء بلا وعي؛ علّه يسترد بعضاً من كرامته المهدورة؛ فلقد تحطّمت اسطورته الكاذبة أمام بسالة شجعان المقاومة؛ و إسرائيل التي تعتمد في عقيدتها العسكرية القتالية على مبدأ الهجوم تحقيقاً للدفاع؛ وهو ما انتهجته في كل حروبها السابقة؛ قد سقط عن وجهها ذلك القناع المُزيَّف؛ فكانت عملية المقاومة الأخيرة نسفاً لكل عناصر عقيدتها القتالية؛ لا سيما وأن المقاومة تعتمد بشكل شبه كلي على الصواريخ التي لا شك أنها تحد من هذا الهجوم واحياناً تعمل على تعطله.
الحرب على غزة تغيب عنها كل معايير الفضيلة والأخلاق؛ وتشكل انتهاكاً صارخاً لكل المبادئ والقيم الإنسانية؛ ولم يزل هذا العالم يتنطع في حديثه عن اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949؛ وميثاق روما الأساسي لعام 1998 التي لا وجود لها في هذا العالم المتوحش؛ وليست ذات أثرٍ يُذكر في تجسيد مبدأ عدم الإفلات من العقاب. سيما وأن كل الجرائم المنصوص عليها في ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية؛ تتجلى بكامل قيافتها وأركانها على أرض غزة فلم يحرّك مجلس الأمن ساكناً؛ ولا مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كذلك؛ ولا الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددهم 193 دولة؛ فهم جميعاً وأمام المزاعم الإسرائيلية الكاذبة قد سوَّغوا لها القتل والفتك والتدمير تحت غطاء ما يسمى بالدفاع الشرعي وقبل ذلك الدفاع الشرعي الاستباقي؛ وصمّوا آذانهم عن كل النوافذ الإنسانية والسياسية والقانونية؛ أما إسرائيل فمأذونٌ لها أن تستهدف بالقصف والقتل والتدمير؛ أي هدف تتحسب أنه قد يشكل خطراً ولو غير مباشر على أمنها؛ وإن كان مبنياً على تقديرات خاطئة. ما أقبحَ وجه هذا النظام الدولي؛ وما أعسفه وأعنفه.
على أية حال؛ وأمام هذا الصمت العربي المريع المطبق إزاء جرائم العدو الصهيوني بحق أهلنا العُزّل؛ يثور التساؤل؛ هل ثمَّة حاجة لبقاء هيكل اسمه الجامعة العربية؛ والذي هو بالمناسبة أقدم من ميثاق سان فرانسيسكو الذي تشكّلت بموجبه هيئة الأمم المتحدة؛ التي ما عادت سوى جسماً مشلولاً، بل ميتة سريرياً بعد أن عجزت وأعياها التيه والفرقة لتكون وسيلة الحلول المحلية وإكرام الميت دفنه.
ربما كان بعض الأنظمة العربية يتمنى فناء حركة المقاومة الإسلامية؛ لأنها قامت بتعرية تلك الأنظمة أمام شعوبها وصنعت ما عجزوا عن صنعه منذ عام 1948 رغم ما ينفقونه في موازنات الدفاع على الجيوش والتسليح؛ ولن يكون مستغرباً أن يكونوا أول الداعمين والمشاركين في الحلف المنتظر بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية للحرب على المقاومة الفلسطينية بدعوى الإرهاب وتحت يافطة من ليس معنا فهو ضدنا وهل يجرؤ أحدٌ أن تسوّل له نفسه بأن يكون ضدهم بعد حالة الاستخذاء هذه.
الأمل بالله أولاً وآخراً؛ وبتلك الفئة المؤمنة المجاهدة الصابرة بأن تقلب الموازين رأساً على عقب؛ وتلحق الهزيمة بالمحتل وأعوانه وتلقّن حضارة البربر الكاوبوي درساً من دروس التاريخ المجيد في أرض الجغرافيا الخالدة.