مواكب النازحين .. إلى أين؟
د.محمد عبدالجبار الزبن
14-10-2023 07:54 PM
حينما نقرأ في كتاب يحكي لنا حياة الوحوش في البرّية، وأنّ لغة القوة تسيطر على مجرياتها، ونراقب كلّ نوعٍ في الغابة يواجه التحديات ويقف أمام عتباتها بكلّ محاولات النجاة، وأنّ الطرف الآخر في صراع البقاء لا يرحم أبدا، نجد ذلك وغيرَه من أشكال الصراع مستساغا، ذلك أنّ الحيوانات ليس من اهتمامها الصناعة والتجارة وبناء الحضارات، فهي تعيش لوقتها واهتماماتها الفطرية.
وعلى الصعيد الإنسانيّ –الراقي- حينما نواجه الأيام وما تأتينا به من وقائع شنيعة، وما يفعله الإنسان بالإنسان، نجد أنّ قانون الغاب أكثرُ لطفا وأنصعُ حضارة من شنائع الظلم والتقتيل والتشريد والتمزيق والتحريق وما يفعله الإنسان القويّ بالإنسان الضعيف.
وأما قمة الاستهجان، فحينما نقف أمام سلسلة المساعدات التي تأتي لإنقاذ القويّ وهو ينهال على الضعيف بشتى أصناف العذاب، فتأتي الإمدادات من باب الهدية المفعمة بالودّ والاحترام للقويّ ليزداد شراسة في تمزيق العدوّ –الإنسان الضعيف-.
وهنا.. ينتابنا الذهول أمام حجم المشهد المتصاعد، فيتوقف اللسان عن الكلام فليس ثمة ما يفصح عن المشهد الغريب المَعيب، والقلم يرتجف من زلزلة الموقف، أمام نُصرة الظالم على المظلوم...، ولكن.. ما تلبث أن تهدأ النفوس حينما نعلم أنّ المسانِد الداعم يرى بمنظار المسانَد الظالم، فقد كان المسكين المظلوم يستنجد بأخيه الإنسان على حين غفلة منه، واليوم يموت المظلوم قرير العين، فوجدوه في بيته هو الظلم في نظر الظالم، والمسألة لا تتعدى أن تكون مقاييس مقلوبة.. فقط!!.
وفي أحداث غزة الأخيرة، وقف أحرار العالم يتعجبون – وحُقّ لهم أن يتعجبوا-، مِن بشاعة ما يحصل هناك، ويتساءل الأحرا:
هل نحن حقًّا بشرٌ لنا قلوب تنبض أم أننا نعيش خيالا في عالم الأوهام؟ أم أننا بشر وهذه حقيقتنا حينما لا نتجرد من قلوبنا ونحكّم أهواءَنا ونطلق العنان لوحشية تترسخ في أجسادنا، لنتحوّل بعدها إلى وحوشٍ لا ترحم، ونحقق المجازر للأبرياء الذين ثبتت تهمتهم بأنهم أبرياء؟، لا عجب يا أحرار!! فقد قيل قديما: (إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب).
ومن العجب في أحداث غزّة.. حدوث طارئ لم نسمع عنه إلا في الكتب الصفراء، وهي تحكي تاريخ الوحشية التي اضمحلت منذ زمن، قبل أن يصبح العالم قرية واحدة، وقبل أن يأتي فيروس كورونا فيوحد البشرية صفّا واحدا، وقبل أنْ يتفق العالم على بنود حقوق الإنسان وعدم قتل المدنيين، وغير ذلك من منظومة الحضارة، التي قد تصبح زائفة إذا تركنا الظالمين يتغولون فيها، وهم الحاقدون على أنفسهم قبل أن يحقدوا على منظومة الإنسانية.
ففي أحداث غزة.. بِيدَت أحياءٌ سكنية على ساكنيها، وتحولت مساكن المدنيين إلى قبور، فقد قامت بمهمة الدفن ذات الصواريخ التي انهالت عليهم من عدوّ ليس في قاموسه كلمة: (الرحمة). فسلام ورحمة من الله على تلك القبور وساكنيها.
وفي أحداث غزة.. جاء التهجير القسريّ الممنوع دوليًّا، المرفوض إنسانيًّا، جاء بنذير شؤم على العالم وتحديدا على هذه البقعة الطاهرة من البيت المقدس، فكيف يصمت العالم على التهجير القسري؟، بل كيف يساعد القويّ من يقوم بتهجير الضعيف قسرا؟، أم أنّ العالم المتحضر نسيَ المواثيقَ الدولية الذي دعا إليها من قبل؟ أم نسي أن نصرة الضعيف حقّ على القويّ لئلا يختلّ ميزان العالم؟.
وهنا سؤال حائر: إلى أين مواكب النازحين نازحة؟ وما المقصود بالتهجير لأهل غزة؟ وهل هو مرحلة يعقبها أشياء شائنة وقرارات منبتة عن الرحمة بائنة، أم ماذا سيكون من خلخلة وقلقلة وزلزلة على الصفيح التكتونيّ الساخن؟. وهل أُوكلتْ مهمة إدارة العالم للذكاء الاصطناعيّ؟.
لا أظنّ.. فالريبوتات لن تستطيع الوصول إلى صياغة حقد دفين يضرب مواكب النازحين.. بل لن تأمر بنزوحهم أصلا، بل لن تأمر بحرب وقتل ودمار للمدنيين مطلقا، كما أعتقد جازما أنّ الرحمة والشفقة في الجماد أكثر مما في قلوب الظالمين لمواكب النازحين.
agaweed1966@gmail.com