الطاقة الإندماجية
الأستاذ الدكتور خليفه ابوسليم
12-10-2023 08:05 AM
من المعروف ان اي مجتمع بحاجة الى الطاقة للقيام بالنشاطات المختلفة مثل الصناعة والزراعة والمواصلات والإستخدامات المنزلية.
وتظهر اهمية الطاقة بشكل لافت في المجتمعات الحديثة التي تعتمد على الصناعة والتكنولوجيا حيث تدخل في جميع النشاطات الإنسانية. ويمكن اعتبار مقدار استهلاك الطاقة مقياسا لمدى تقدم الدولة وبشكل تناسبي باعتبار ان الطاقة هي عماد الصناعة والتكنولوجيا والمجتمعات الحضرية.
على ذلك لازال الإنسان ببحث دائم عن مصادر للطاقة تلبي حاجاته المتزايدة، وتقلل من الأعباء المالية التي تستهلك جزءاً كبيرا من دخله، سواءً للإستخدامات المنزلية اوالمواصلات اوالنشاطات الإقتصادية المختلفة. في البحث عن مصادر جديدة يحاول الإنسان كذلك الحد من التأثيرات السلبية المختلفة الناتجة عن الإستهلاك المتزايد والمفرط للطاقة الأحفورية ومنها التأثيرات البيئية. اضف الى ذلك ان هناك حاجة كبيرة متوقعة للطاقة لتلبية الطلب المتزايد نتيجة النمو السكاني للكرة الأرضية والذي سيصل بعدد سكانها الى ثلاثة اضعاف العدد الحالي مع نهاية هذا القرن.
لقد تطورت مصادر الطاقة المستخدمة من الوسائل البسيطة مرورا بالمصادر الأحفورية والنووية والمتجددة. ولكل من هذه المصادر مزايا ومشكلات لايمكن اخفائها فمثلا المصادر الأحفورية لاتخلو من المشاكل البيئية والطاقة النووية لاتخلو من المشاكل الإشعاعية ومشاكل التسلح. اضافة الى التكاليف التي تشكل نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة وتشكل نسبة كبيرة من الدخل الفردي.
ينظر الى الطاقة الإندماجية بأنها مصدرالطاقة المستقبلية الذي لن ينضب حيث انه من المتوقع ان يدخل المرحلة التجارية في النصف الثاني من هذا القرن. بدأت ابحاث الإندماج النووي في الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي سابقا بهدف تطويراسلحة هيدروجينية في خمسينيات القرن الماضي، بينما بدأ العمل الفعلي في محاولة انتاج الطاقة للأغراض السلمية من التفاعلات الإندماجية في سبعينيات القرن الماضي.
ان انتاج الطاقة الإندماجية هو محاكاة لعملية انتاج الطاقة في الشمس. والمبدأ ببساطة يقوم على اندماج انوية خفيفة مثل نظائر الهيدروجين لتشكل انوية ثقيلة مثل الهيليوم وفرق الكتلة يتحول الى طاقة حرارية يمكن الإستفادة منها في انتاج الطاقة الكهربائية.
تحدث عملية الإندماج النووي عندما يتم تسخين نظائر الهيدروجين الى درجات حرارة عالية من رتبة مئة مليون درجة مئوية لتحاكي الظروف المتوفرة في الشمس حتى تستطيع الأنوية الإقتراب من بعضها بشكل كافٍ لإحداث الإندماج. هنا لابد من الإشارة الى ان هذه العملية تواجه تحديات عديدة منها تحديات هندسية وتقنية تتمثل بإيجاد وسائل حفظ المواد المتفاعلة على درجات حرارة وضغط عاليين. كذلك هناك تحديات علمية تتمثل باستمرارية التفاعل والتحكم به وبمقدارالفرق بين الطاقة الناتجة من الإندماج والطاقة اللازمة لإحداث الإندماج والذي يجب ان يكون موجبا. بمعنى يجب ان تنتج من العملية طاقة صافية يمكن الإستفادة منها.
في ضوء هذه المعطيات تعمل كثير من الدول المتقدمة علميا وماديا على اثبات امكانية استغلال الطاقة الإندماجية كمصدر للطاقة المسقبلية حيث تتميز هذه الطاقة بمجموعة من الميزات لا تتوافر في وسائل انتاج الطاقة المتعددة والمستخدمة حاليا، من هذه الميزات:
- الطاقة الإندماجية هي مصدر ضخم من الطاقة: مقارنة بسيطة مع مصادر الطاقة المعروفة تبين ان اندماج واحد كيلوغرام من المادة الإندماجية في المفاعل الإندماجي يمكن ان يعطي طاقة كهربائية تكفي استهلاك حوالي 60000 منزل متوسط (بمعدل 600 كيلوواط-ساعة) لمدة شهر. هذا الرقم يمثل اربعة اضعاف الطاقة التي ينتجها انشطار كيلوغرام واحد من اليورانيوم المخصب بنسبة 5% في المفاعل الإنشطاري التقليدي المعروف حاليا، ويمثل حوالي اربعة ملايين ضعف من حرق كيلوغرام واحد من المادة الكربونية التقليدية
- الطاقة الإندماجية هي مصدر لا ينضب: باعتبار ان مادة الوقود الإندماجي متوفرة بكثرة في مياه البحار والمحيطات وفي القشرة الأرضية ويمكن استخلاصها بسهولة، وهي مادة من المتوقع ان تكفي لملايين السنين
- نواتج الإندماج النووي هي غازات خاملة وغير سامة، ولايصاحبها انبعاثات كربونية مثل غاز ثاني اكسيد الكربون، وبالتالي نقلل من تأثير الإحتباس الحراري والتلوث وهي صديقة للبيئة
- لايوجد مخلفات اشعاعية طويلة العمرعلى العكس من الفضلات الناتجة من الوقود الإنشطاري ومايرافقها من مشاكل التخلص منها ومخاطر التسلح النووي
- الحد من اسلحة الدمار الشامل والتسلح النووي: حيث ان المواد الإندماجية هي مواد اشعاعية قصيرة العمرلايمكن استخدامها لإنتاج اسلحة نووية كما هو الحال في المواد الإنشطارية كاليورانيوم والبلوتونيوم
- تقليل مخاطر الإنصهار للمواد المكونة للمفاعل الإندماجي حيث ان المواد الداخلة في التفاعل هي كميات صغيرة تبرد بسرعة كبيرة وخلال ثواني اذا حدثت ظروف تشغيل عابرة (حادث) مما يؤدي الى اطفاء وانهاء التفاعل مباشرة وعدم انتاج حرارة تؤدي الى صهر المواد الحافظة. ببساطة: حوادث مشابهة لحادث فوكوشيما عام 2011 غير محتملة.
- التكاليف: من المتوقع ان تبنى مفاعلات الإندماج النووي وتدخل مرحلة التشغيل التجاري اعتبارا من حوالي عام 2050 بقدرات مشابهة لقدرات المفاعلات النووية العاملة حاليا (بين 1000 و 1600 ميجاوات) لكن لغاية الآن لايمكن التنبؤ بالتكاليف المتوقعة.
اعطي مثالا على ذلك ان تكاليف المشروع الأوروبي لبناء نموذج مفاعل تجريبي اندماجي قدرت بحوالي خمسة مليارات دولار، لكن لغاية الآن تم رفع التقدير الى حوالي اربعة اضعاف التقديرات الأصلية. كذلك تم تأجيل التشغيل الى عام 2035 كأقرب موعد. من الجدير ذكره ان التكاليف لأي منشأة او مشروع تكون في البداية مرتفعة وتبدأ بالإنخفاض ببناء منشآت متعددة واكتساب خبرات تشغيلية كما هو الحال مثلا بمحطات الطاقة النووية والطاقة الشمسية.
كلمة اخيرة: لا شك انه حدث تقدم واختراقات علمية في التفاعل الإندماجي خلال السنتين الماضيتين، ومن الأمثلة على ذلك فقد اعلنت وزارة الطاقة الأمريكية في كانون اول 2022 انتاج طاقة موجبة في التفاعل الإندماجي، وهدفها النهائي هو بناء نموذج اولي للمفاعل الإندماجي خلال عقد من الزمان.
وهناك ابحاث جارية في مراكز بحث علمي متقدمة متعددة ولأهداف مختلفة في المجال الإندماجي وجميعها تثبت تقدما ملحوظا، لكن لابد من الإشارة الى انه ليس من المتوقع ان يحصل الإستخدام التجاري للطاقة الإندماجية قبل النصف الثاني من هذا القرن نظرا للتعقيدات العلمية والهندسية والمالية المتعلقة بالموضوع.
* الأستاذ الدكتور خليفه ابوسليم/ الجامعة الأردنية