"يبذل الرؤساء جهداً عند أمريكا لتُفْرِجَ عن مياه الشربِ
كيف سنغسل الموتى؟
ويسأل صاحبي: وإذا استجابت للضغوطِ فهل سيفر موتنا
عن:
دولةٍ...
أَم خيمةٍ؟
...
أَمريكا هي الطاعون، والطاعونُ أمريكا
نعسنا. أَيقظتنا الطائرات وصوتُ أَمريكا
وأَمريكا لأمريكا"
(مديح الظل العالي، محمود درويش)
* * *
في النكبة المستمرة للشعب الفلسطيني. في الكرامة العربية المراقة. في آلام الشعوب المقيدة المحرومة من الخبز والحرية. في كل مشكلة في كل زاوية من العالم المضطرب، ستجد أمريكا.
من سوء حظ الشعب الفلسطيني أنه يحارب، وحده في الغالب، الولايات المتحدة التي تفعل دائمًا كل شيء حتى تُخرجه من الوجود. ومن "حسن حظه"، أو حصته المعجزة من العناد وقدرة المقاومة، أنه استطاع دائمًا أن ينجو من هذا الهجوم البشع الذي تشنه عليه بلا توقف أكثر القوى شرًّا وشراسة في التاريخ.
الفلسطينيون لا يحاربون الكيان الاستعماري الاستيطاني الإبادي الوحشي، وإلا لكانت موازين الصراع قد تغيرت منذ أمد بعيد لصالح صاحب الحق. هذا ما تقوله الأحداث الجارية هذا في كل تفصيل. لا يمتلك هذا الكيان، حتى بترسانته وتقنياته وأسواره، الأساس البنيوي للصمود. إنه، ببساطة ليس صاحب حق ولا هو مقبول، شعبيًا، في الإقليم الذي أنشئ لإخضاعه. لكن أمريكا تقول للكيان: لن نسمح بأن تخسروا أي حرب. خذوا كل ما تريدون من الدعم، وأدوات القتل، والتغطية على جرائم الحرب، ومطلق الحرية في الكيفية التي تبيدون بها الفلسطينيين، "الإرهابيين". وسوف نضمن بكل طاقتنا أن لا يهبّ أحد لنجدة الفلسطينيين.
بماذا كان الفلسطينيون وحشيين تجاه أمريكا؟ ما الذي فعلوه لها تاريخيًا حتى تكنّ لهم كل هذا العداء الأسود ونية القتل؟ كاد رئيسهم، جو بايدن يبكي أول من أمس وهو يتحدث عن ألم العائلة التي تفقد أحباءها. قال إن قلبه وقلب أميركا ينفطر من الحزن والألم على مصارع اليهود. وليس عجيبًا أن لا ترى أميركا وجع قلوب الفلسطينيين، والعرب، والمكلومين في كل مكان، الذين كانت السبب في فطر قلوبهم. وليس عجيبًا أن ساسة أمريكا لا يقرأون– أو بالأحرى، إحصائيات ضحايا الصراع في فلسطين، ولا تاريخ الصراع، ولا مساراته ولا منطقه. إنها لا تريد أن ترى الفلسطينيين ولا غيرهم من غير نفسها كبشر. إنهم لا يتألمون لفقدان أحبائهم، ولا لهم الحق في المطالبة بما يطالب به البشر الوحيدون في العالم: البيض الأوروبيون– والباقي سُدى.
والعرب
كيف يمكن لعربي أن لا يرى المكانة الوضيعة التي تخصصها أمريكا للعرب، على أي وكل مستوى؟ أعلى من الشمس حقيقة أنها تريد أن تجعل العرب، بشعوبهم وقادتهم، خدمًا لبقاء الكيان العميل، على حساب سلامتهم وبقائهم ومصالحهم العادية والإستراتيجية. ومع ذلك، يقول كل رئيس أميركي، متحدثًا بالحقيقة: نجري اتصالاتنا مع حلفائنا في المنطقة لضمان أن ينتصر "الإسرائيليون" وأن يُداس على الفلسطينيين، ومشاعر الشعوب، وكرامة الكبير في العرب قبل الصغير. سوف نضمن استقرار الأمور على هوان العرب، وموت العرب، وتدمير مصالح العرب. كيف يمكن أن يكون أحد حليفًا للولايات المتحدة؟ أن يُعلن ذلك ويطبقه بإيمان عجوز؟
والكيان
أساسه الاستعمار الاستيطاني البشع، المشروط وجوديًا بإبادة شعب وانتزاع وطنه والحلول محله، بكل ما ينطوي عليه الشرط نفسه من وحشية. وعمله، إبقاء الإقليم – وخاصة قادته- واقفًا في الزاوية، وجهه إلى الحائط وعلى رجل واحدة، وأدواته، بناء القوة الجاهزة للقتل، وتدريب أفراده على مهنة القتل، والدفاع عن نفس هذا التكوين المتطرف الفريد بعدوانيته، أيديولوجية وشروط وجود وغايات وأدوات. كيف يستطيع أحد أن يبرر التطبيع مع هذا التكوين؟ ليست المسألة مسألة فلسطينيين. إنها مسألة مبدأ. ويبدو أن "المبدأ" المُختار رسميًا، بالتعاقب، هو المبدأ الصهيوني، بالبصم عليه ومساعدته وبيعه قسرًا على الشعوب التي تكره رائحته ومذاقه وشخصه المسموم. وفي هذا ستجد أمريكا.
الشيعة
لا أحد يستطيع أن ينكر الرابط الأصلي بين السنة والشيعة كمنتمين إلى دين أصلي واحد وأن الأسس لتحالفهم أكبر من أي تحالف ممكن آخر. الكيان يخوض معركته على أساس ديني. وأمريكا تنمط الصراع باعتباره مع المسلمين "الإرهابيين". وأنظمة المنطقة وفنائها الخلفي المقطوع تنسب نفسها إلى "العالم الإسلامي". ومهما حاول أحد تغطية الحقيقة، فإن المشروع الوحيد للتصدي للكيان، وتسلط الغرب الاستعماري، هو المشروع الشيعي. وإذا نُسب فضل لمنجز حماس الفلسطينية السنية، وصمودها والأمل الذي تبثّ في روح العرب، وإذا كان ثمة أمل في أن يتدخل أحد لإنقاذ الفلسطينيين وتخفيف وجع ضمير العرب، فإنهم الشيعة. بالتأكيد ليست الصواريخ والأنظمة التي تحارب بها المقاومة الفلسطينية، أو التي تأمل في أن تنضم إليها، ليست سنية. وليست الفكرة التركيز على هذا التصنيف. الفكرة هي المصلحة في إلغاء التصنيف والتآلف على مصلحة معاداة المشروع المضاد المعلن الذي لا يخفي ازدراءه للجميع.
معاداة أمريكا
يزعمون أن الآخرين يكرهونهم لأنهم يغارون من إنسانيتهم وتحضرهم وحرصهم على محاربة الاستبداد وتوزيع الحرية. ما الذي تفعله أميركا لكي لا تكرهها الشعوب، وخاصة العرب؟ إنها تقول– وتفعل- أنها تقف ضد العرب، سواء بدعم عدوهم الذي يديم خسارة قضيتهم "المركزية"، أو تسفيه آرائهم بدعم وجود من يقبلون بتسفيه الرأي كله. وتجلب أمريكا بلا تردد حاملات طائراتها وتؤلب الرأي الأوروبي الاستعماري التابع، وتقدم السلاح والضمان العسكري، لتقول للعرب إنها مستعدة لقتلهم إذا أبدوا رأيًا مخالفًا في الصراع الفلسطيني. وتجري الاتصالات مع "الحلفاء" لإدانة المقاومة الفلسطينية وتشجيع الوحشية الاستعمارية. في الحقيقة، عنصر الكراهية كمادة في الوجود هو السياسة الأميركية. ومنتهى الحضارة هو كراهية هذه الكراهية السامة التي تترك رائحتها في كل زوايا العالم، مثل نافخ الكير.
حماس
لنعترف بأن "المقاومة الإسلامية" التي تعنون مشاريعها بهذا الوصف، هي الوحيدة التي تقول أو تفعل شيئًا في مواجهة المشروع الغربي ورفيقه الصهيوني. ربما نقول الكثير، ولكن أين البديل الذي يستطيع أن يعنون نفسه بشيء مختلف ويأتي بمأثرة؟ للأسف، أخذ "العلمانيون" الفلسطينيون القضية إلى موقفهم- لا كمتفرجين سلبيين- وإنما كخدم أمنيين للعدو الوجودي وتوجيه الأسلحة إلى المحتجين الذين يريدون التعبير عن دعم مواطنيهم لفض احتجاجاتهم. موقف مخزٍ سيسجله التاريخ.
يُفترض أن يكون لدى المناضلين في غزة مخطط مُحكم توقع المسارات وأعد الردود. لا مشكلة في تضحيات الفلسطينيين في الأساس إذا كانت هذه التضحيات ستكون بمقابل. في النهاية، الفلسطينيون يخسرون كل يوم وليس لديهم ما يخسرونه– وإنما ليس الانتحار العبثي. وفي النهاية أيضًا، ثمة من يحملون المسؤولية لحماس/ الفلسطينيين في نزع استقرار الإقليم، من دون تعريف ما يستقر عليه الإقليم الذي عنوانه ترسيخ هيمنة الكيان الصهيوني، وإدامة النكبة الفلسطينية العربية، وركوب أمريكا وربيبتها و"حلفائها" على ظهور عرب مروضين. نريد– ومصلحتنا- تقويض هذا "الاستقرار" على القلق. ونصلي ليكون لدى حماس مفاجآت تنقذنا بها من الخيبة ولا تهدم الأمل الأخير.
الغد