كحال كل الأردنيين، بدأت علاقتي مع القضية الفلسطينية مبكرا، منذ نعومة أظفاري، ففي كل بيت أردني توجد فلسطين.
وننشأ على الجدالات الساخنة بين الوالد والوالدة والإخوة والأقارب، يتجادلون على أنجع الوسائل لحماية فلسطين وعلى الحفاظ عليها وطرد الظلم والاحتلال الواقع عليها وعلينا جميعا.
يتحدثون بحرقة وغضب وحزن طويل، لكن وبين فينة وأخرى يطل الأمل على بيتنا وعلى كل عربي، فهذه قضية حية لا يمكن أن تموت، ولا يمكن أن يعفو عليها الزمن.
في عام 1989 كنت طفلا صغيرا في الصف الخامس الابتدائي، وكنت مفعما ولا أزال بحب فلسطين، خاصة أن الانتفاضة الاولى كانت منطلقة، وأحيت مشاعر الحماس والإيمان في كل الجماهير العربية.
في ذلك الوقت كانت لغتي العربية الفصيحة قوية، واختاروني في المدرسة لألقي قصيدة الشاعر العربي الكبير نزار قباني عن غزة العزة، التي قال فيها :
غزة..
علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا
علمونا بأن نكون رجالا
فلدينا الرجال صاروا عجينا
علمونا كيف الحجارة تغدو
بين أيدي الأطفال ماسا ثمينا
كيف تغدو دراجة الطفل لغما
وشريط الحرير يغدو كمينا
كيف مصاصة الحليب
إذا ما اعتقلوها تحولت سكينا
يا تلاميذ غزة
لا تبالوا بأذاعاتنا ولا تسمعونا
اضربوا.. اضربوا بكل قواكم
واحزموا أمركم ولا تسألونا
نحن أهل الحساب والجمع والطرح
فخوضوا حروبكم واتركونا
إننا الهاربون من خدمة الجيش
فهاتوا حبالكم واشنقونا
نحن موتى لا يملكون ضريحا ويتامى
لا يملكون عيونا قد لزمنا جحورنا
وطلبنا منكم أن تقاتلوا التنينا
قد صغرنا أمامكم ألف قرن
وكبرتم خلال شهر قرونا
يا تلاميذ غزة
لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقرأونا
نحن آباؤكم فلا تشبهونا
نحن أصنامكم فلا تعبدونا
نتعاطى القات السياسي والقمع
ونبني مقابرا وسجونا
حررونا من عقدة الخوف فينا
واطردوا من رؤوسنا الافيونا
علمونا فن التشبث بالأرض
ولا تتركوا المسيح حزينا
من شقوق الأرض الخراب
طلعتم وزرعتم جراحنا نسرينا
هذه ثورة الدفاتر والحبر
فكونوا على الشفاه لحونا
أمطرونا بطولة وشموخا
إن هذا العصر اليهودي
وهم سوف ينهار
لو ملكنا اليقينا
يامجانين غزة
ألف أهلا بالمجانين
إن هم حررونا
إن عصر العقل السياسي
ولى من زمان
فعلمونا الجنونا
تلك القصيدة التي كأنها تصف حال اليوم.
عن هيبة غزة وعظمة رجالها وبأس أبنائها، عن مصاصة الحليب التي تغدو سكينا في وجه العدو الغاشم، وعن الإقدام على الموت في سبيل الله والذود عن الأوطان والأمة، عن التشبث بالأرض حتى يشعر الإنسان أنها جزء من جسده تعاونه في حربه على العدو، فتخفيه في جوفها كأنها أمه الحنون.
ما قام به أبناء غزة مثال متجدد يقتل كل شك تسرب إلى قلوبنا في يوم من الأيام، بأنه أصبحنا عاجزين عن مواجهة الاحتلال وتقدمه التكنولوجي والعسكري والشيكات التي تُمنح له على بياض من الغرب، لقد أثبت الغزيون لنا ورجال المقاومة أنهم على العهد ولا يحيدون عنه.
لقد قدّموا في الأيام الماضية أرواحهم وأطفالهم ودماءهم وأموالهم ومصالحهم وتجارتهم فداء للأرض، وسيقدمون المزيد، ورغم ذلك فلا تسمع منهم سوى الحمد والشكر والاحتساب، فهم يعرفون أن ثوابهم عند الله عظيم.
أعادني أهل غزة أكثر من ثلاثين عاما إلى الوراء، إلى طفولتي المفعمة بالأمل، بالتحرير وعودة الأوطان لأصحابها.
وعلى الرغم من الحصار والضنك والوجع الذي قبعوا تحته لعقدين، لكنهم أثخنوا الجراح في العدو، ولقنوه ومن خلفه العالم درسا ملهما لن تنساه كتب التاريخ، فما أشبه الأمس باليوم، تتغير الدنيا وتمر الأيام، ولا يزداد الاحتلال إلا ظلما وعدوانا، ولا يزداد شعب فلسطين سوى إصرار على المقاومة والصمود وتسطير ملاحم الشرف والفداء.