قبل 50 عاما، كانت الصحافة العالمية على موعد مع حدث من العيار الثقيل، أرض تحرر، وجنود يرسمون ملامح ملحمة مكتملة الأركان. وأسطورة زائفة عن جيش لا يقهر تسقط كحبات عقد منفرط مع اندفاق خراطيم المياه التي استطاعت ببراعة أن تشق طرقاً لها في ثنايا خط بارليف.
أجمعت الصحف ووكالات الأنباء العالمية في افتتاحياتها وقتئذ على أنه قد "اتضح أن القوات الإسرائيلية ليست مكونة كما كانوا يحسبون من رجال لا يقهرون، وأن الثقة الإسرائيليّة بعد عام 1967 قد بلغت حد الغطرسة الكريهة التى لا تميل إلى الحلول الوسط، وهذه الغطرسة قد تبخرت فى حرب أكتوبر" وأن الأسبوع الذي شهد اندلاع الحرب، كان أسبوع تأديب وتعذيب لإسرائيل، ومن الواضح أن الجيوش العربية تقاتل بقوة وشجاعة وعزم.
وبالتزامن مع الذكرى الـ 50 لحرب أكتوبر “تشرين”، نفذت كتائب عزالدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، عملية “طوفان الاقصى” العسكرية، التي وصفت بأنها “نوعية واستراتيجية غير مسبوقة” في تاريخ عمليات المقاومة الفلسطينية المسلحة ضد اسرائيل، شملت إطلاق آلاف الصواريخ وتسلل مسلحي الحركة إلى داخل المناطق الجنوبية المحتلة، وأسفرت عن مقتل مستوطنين وجنود وضباط وإصابات بالآلاف بحسب وسائل إعلام تابعة للاحتلال.
وفيما شنَّ جيش الاحتلال عملية “السيوف الحديدية” ضد قطاع غزة، رداً على العملية الفلسطينية، ما أدى إلى ارتقاء شهداء وجرح الكثير من سكان القطاع، فيما أعلن القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف أن “طوفان الأقصى” جاءت رداً على جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين واقتحاماته المتكررة للمسجد الأقصى.
شنت “حماس” حربا غير مسبوقة على إسرائيل بدأتها بهجوم مزدوج، نجح معه مقاتلو الحركة بالتسلل إلى معسكرات لجيش الإحتلال في محيط القطاع، ثم إلى المستوطنات في غلاف غزة وسيطروا عليها لساعات، وقتلوا خلالها إسرائيليين واختطفوا آخرين وساقوهم إلى قطاع غزة في مشهد غير مسبوق، فيما دكت آلاف الصواريخ مناطق مختلفة من الأراضي المحتلة التي كانت تغط في عطلتها الرسمية.
ووسط تأكيدات بأن الهجوم المخطط له منذ فترة ليست قصيرة، أظهر هشاشة غير عادية للجيش الإسرائيلي وقوات الأمن، إلى الحد الذي وصف به معلقون إسرائيليون ما يحدث بأنه “حرب العار”.
لقد سعت إسرائيل منذ فرض حصارها على غزة قبل أكثر من عقد ونصف إلى تقويض قدرة الفصائل الفلسطينية في القطاع على التأثير في المعادلات السياسية والعسكرية للصراع، كما استخدمت الحصار وسيلة لدفع الفلسطينيين في غزة إلى التمرد على إدارة حماس للقطاع. بينما عكس نجاح حركة حماس في إحداث الصدمة الأمنية الكبيرة من خلال عملية "طوفان الأقصى" فشلا أمنيا واستخباراتيا إسرائيليا ذريعا، ومن المؤكد أن ارتداداتها ستكون كبيرة على السياسة الداخلية الإسرائيلية.
وحقيقة أن عملية "طوفان الأقصى" تتزامن مع مساعي الولايات المتحدة لتوسيع نطاق التطبيع الإسرائيلي العربي وإبرام صفقة سلام بين السعودية وإسرائيل تفسر بعض الأهداف المهمة المرجحة التي سعت حركة حماس لتحقيقها. ولا يزال من غير الواضح قياس الآثار المحتملة المترتبة لهذا التطور على مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي، لكنه بالتأكيد يجعل الأمور أكثر تعقيدا.
المقاومة الفلسطينية كتبت تاريخاً جديداً، حتى وإن لم يكتب لها النصر حتى حين، وفلسطين لن تموت أبداً لأنها عقيدةٌ في قلب ألف مليون مسلم.
حجم المفاجأة المدوّية التي استيقظ عليها كل من يسكن المعمورة، لم تكن أقل درجة من مفاجأة سكان "المستعمرات الصهيونية"، والذين لم يكن يدور في خلدهم، أو حتى في أسوأ كوابيسهم أن يروا من نوافذ بيوتهم الآمنة مقاتلي المقاومة وهم يتجولون في شوارع المستوطنات المقامة على أراض محتلة، ويطرقون الأبواب عليهم بكل ثقة وقوة، ويسوقون العشرات منهم إلى أراضي القطاع.
باختصار.. على درب الأنداد في ميادين القتال تأتي عملية "طوفان الأقصى" لتمحو بقايا أي رواسب للخوف الذي صنعته الدعايات الإسرائيلية ذات المبالغات والتهويلات، وهذا أثر له ما بعده في قابل الأعوام.