منذ توقيع اتفاقيتي "اوسلو" و"وادي عربة"، ومن قبلها الخطيئة الأكبر "كامب ديفيد"، أصبحنا كشعوب مطالبين ليس فقط بالتوقف عن النظر للكيان الصهيوني باعتباره "خطرا وجوديا" لا بقاء لنا كشعوب عربية وإسلامية ببقائه، ولا حتى مجرد اعتبار هذا "الكيان" تجاوزا "دولة" أخرى مثل أي دولة "عادية" نرتبط بها بعلاقات "تقليدية"؛ لا نعاديها ولكن لا نهيم بها حبّا في نفس الوقت.
بل أصبحنا مطالبين أن ننظر لما يسمّى "دولة إسرائيل" باعتبارها الصديق الصدوق، والوليّ الحميم، والحليف المخلص، والشريك المتفاني، و"شِق التوم" الذي بقاؤنا من بقائه وسلامتنا من سلامته!
وعلى هذا الأساس تم تطويع أجيال وتنشئة أجيال أخرى من أجيال "المحبة" و"السلام".
وقد تمّ تكريس إسرائيل" في وجدان ووعي هذه الأجيال المشوّهة باعتبارها قدرا لا مفرّ منه..
وباعتبارها حتمية مادية وتاريخية ولاهوتية لا يمكن أن نغيّرها أو نتفاداها أو نحيد عنها..
وباعتبارها على صغر حجمها "ماردا" جبارا ذا قوة لا تقهر، ونفوذ يغشى مشارق الأرض ومغاربها، و"يد طايلة" قادرة على الوصول لأي شخص في أي مكان حتى لو كان في بطن أمّه..
وباعتبارها ذات "مشيئة" إلاهية لا تُساءل ولا تُناقش: ترفع وتخفض، وتعطي وتمنع، وتنصّب زعماء ومسؤولين، وتحلّ دولا وأنظمة، وتدمر مجتمعات، وتشردّ شعوبا بأكملها..
وباعتبارها "صهيون"، فردوس الله الموعود على الأرض، وجنة التقدم التكنولوجي والازدهار الاقتصادي والرخاء الاجتماعي، والتي يطمح أي محظوظ أن يطأ ترابها، أو ينال جنسيتها، أو على الأقل يحظى بعقد عمل ولو كعمالة رخيصة جرسونا في إحدى مطاعمها أو فنادقها أو منتجعاتها!
وأصبح من يسبّ "إسرائيل"، أو ينتقدها، أو حتى يجترئ على التصريح ببغضه لها، بمثابة المتهم الذي تجب مراقبته، والظنين الذي يجب الحذر منه، والنمرود الذي يجب تأديبه، والموبوء الذي يجب الابتعاد عنه وحجره وعزله، ومحراك الشر الذي يستدرج الآخرين، والخائن الذي لا تهمه المصلحة الوطنية العليا، والعميل الذي يردد شعارات خارجية هدّامة مثل "المقاومة" و"الجهاد" و"التحرير"، و"الإرهابي" الذي يجب "إرهابه"، و"المهووس" أو "الممسوس" أو "السيكوباتي" الذي يريد أن يحرم "البشر" من العيش في خير ونعيم ووئام!
في مقابل ذلك كله، أحاول أن أتوقف مليّا، وأتفكّر وأتأمل، واستنفد طاقة "التقمص الوجداني" لديّ محاولا الإجابة عن السؤال الذي يدهشني ويفحمني: يا ترى كيف ينظر المقاوم الفلسطيني إلى إسرائيل، وكيف تبدو هذه الآلهة التلمودية الدموية التي نخشاها جميعا في عيون هذا الشخص الذي كرّس حياته كلّها في سبيل فكرة يؤمن بها؟!
في "فيلم الرسالة" هناك حوار مقتضب أجراه صنّاع الفيلم على لسان "عبادة بن الصامت" وسيد الشهداء "حمزة بن عبد المطلب" قبل احتدام القتال في "غزوة أحد":
- عبادة: ماذا ترى يا حمزة؟
- حمزة: إنّهم أكثر عددا، ولكننا بالإيمان أكثر قوة. نراهم ويروننا، كل ما هو أمامي لا يخيفني، عندما يأمر النبي ننقضّ عليهم.
أظنّ أنّ هذا هو جواب سؤالي، هذا هو لسان حال أبطال المقاومة الذين يسلبوننا ويسلبون العالم كلّه المبادرة: "كلّ ما هو أمامي لا يخيفني"!
أمّا الشعوب الخانعة والمهزومة، فيخيفها كلّ ما هو وراءها: آباؤهم، وأبناؤهم، وإخوانهم، وأزواجهم، وعشيرتهم، وأموال اقترفوها، وتجارة يخشون كسادها، ومساكن يرضونها.. ونمط عيش يقدّسونه، وحكّاما يعبدونهم، وأنظمة تتربّص بهم!
"طوفان الأقصى" هو طوفان يجتاح النفوس والسرائر قبل أن يغشى ساحة المعركة!