مسافات غير مقطوعة نحو المستقبل !
اللواء محمد البدارين
07-10-2023 12:42 AM
قبل اشهر قليلة ، من اضطراب الاوضاع في المنطقة العربية عام 2011 ، كنا قد نشرنا ما يشبه تحليلا استباقيا ، تضمن تقديرات محددة تثبت ان ما سيحدث هو على وشك ان يحدث ، وقد استندنا في ذلك التحليل ، الى معرفة تراكمية محدثة ، بحقيقة الاوضاع في الاردن والمنطقة عموما ، وهي معرفة تستند في بعض عناصرها الى ابحاث كان يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت ، اضافة لأبحاث استثنائية جدا ، لعدد من المفكرين العرب المترفعين عن كل الدنيا وما فيها ، مثل : المهدي المنجرة ، محمد اركون ، محمد عابد الجابري ، الذين رحلوا قبل قليل من اندلاع حركة الربيع العربي الذي اصبح يسمى ( ما يسمى الربيع العربي ) او (الربيع الامريكي ) اي قبل ان يشاهدوا بعيونهم تحقق توقعاتهم ( المنجرة كان في غيبوبة الموت ).
ومن المفروغ منه ، ان النخب الحاكمة في البلدان العربية ، لا تهتم بمتابعة كل ما لا يتعلق بالعمليات اليومية ، ولا يمكنها بطبيعة تكوينها ان تعترف بوجود الازمات قبل وقوعها ، وحين تقع الازمات فان اساليب المعالجة معروفة ولا يمكن ان تتغير ، وفي ساعات الضغط تبدو هذه الاساليب ارتجالية وفورية ومتسرعة ، واحيانا مضحكة ، ولا زلنا نتذكر قرارات رفع الرواتب المستعجلة التي اتخذتها كل او معظم الحكومات العربية في مطلع عام 2011،
ونستبعد ان يكون احدا من عناصر الحكم العربية تذكر عند اتخاذ القرار في حينه ، المثل الشعبي القديم ( العليق عند الغارة لا ينفع ).
طبعا ، منذ ذلك الحين وحتى الان ، جرت احداث كثيرة ، وسال حبر كثير ، وربما سال دم اكثر ، ولا تنصح المصادر المعتبرة ، ضعاف القلوب ، بقراءة كثير من تقاريرها حول ما جرى في العديد من البلدان العربية ، ومن بين سيول الحبر السائلة حتى الان ، فان اكثر ما نجد ان هناك حاجة للكشف عن حقيقته ، هو موقف جملة من السياسين الاردنيين والعرب والايرانيين ، الذين رصدنا ابتهاجاتهم بحركة الشوارع العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا ، لكنهم ما ان تحركت شوارع درعا ، حتى انقلبوا على انفسهم ، بشكل يؤكد عجز كثير من الناس ، عن مقاومة انحيازاته المسبقة عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك.
ونتذكر فيما نتذكر ، ان مفكرا اردنيا مرموقا كان يشارك مع ابنه في اعتصام دوار الداخلية الشهير في عمان ، انقلب على نفسه بمجرد ان خرجت حمص كلها للاعتصام في دوار الساعة فتعرضت جماهيرها للرش المباشر بالرصاص الحي ، وبالتزامن شهدنا كيف تخلى زعيم الجمهورية الاسلامية الايرانية الامام علي خامنئي عن موقفه ، بعد قليل ، من خطابه المرحب بثورات مصر وتونس ، وبدوافع ربما لا تخلو من عقدة التفوق المذمومة ، زعم الامام وهو يعلن ترحيبه بثورة شعب مصر انهم يستلهمون ثورة الخميني ، لكن الاحداث لم تجامل الامام وستمتلء خطبه اللاحقة بشروخ كثيرة ، ليس اكثرها انفضاحا تأييده لحركة المدن البحرينية باعتبارها ثورة ، وقمعه لحركة المدن السورية باعتبارها ارهابا ، وكذلك قمعه المستمر لحركات المدن الايرانية بوصفها مؤامرة.
ولم يجد مؤيدو خامنئي في الاردن وسائر البلدان العربية ، اي حرج في السير خلف خطى الامام المعصوم ، وسيجد تقدميون متطرفون سابقون ، انفسهم في موقف تضامني مشترك مع العسكر والرجعيين وقوى الارتداد والارتزاق ، في كل مكان ، دون اي شعور بخيانة الضمير ، ومن عجائب ما راينا في عمّان ان عناصر تقدمية اردنية واعية ، كانت تضع نفسها بخدمة السفير السوري الشهير بهجت سليمان ، الذي كانت طروحاته السطحية ، ستثير سخرية نفس العناصر لو صدرت عن سفير دولة اخرى.
لن نسقط كما سقطوا ، فالحقيقة عندنا اسمى من العقيدة ، والعقيدة التي لا يمكن الدفاع عنها بقوة الحقيقية ، لن تنتصر ، وهذا ما نفهمه من درس غاليلو عندما جامل الكنيسة وتراجع عن اقواله حول حقيقة دوران الارض ، معلقا انا اتراجع لكن الارض لن تكف عن الدوران ، ومن الطريف ان ذويل قضيته مع حراس العقيدة لم تنته الا عام 2008 اي بعد اربعة قرون !
وحين تطغى ، حاليا ، ادبيات تصدع الحقيقة وفق ما تقول مؤسسة بحثية كبرى ، وتنتشر تلفيقات فلسفة الثورة المضادة والمؤامرات الكونية والربيع الامريكي ، فاننا لن نسأل اين هو امير حسين موسوي ، ولا اين فاروق الشرع ولا اين سامي عنان ، ولن نتساءل كيف لمن يطالب العالم بالتضامن معه ضد الاحتلال ان يؤيد احتلالا اخر ، لكننا سنتذكر ان نكت السفهاء حول نساء اوكرانيا لم تصمد ولو قليلا ، ما ان كشفن عما في داخل صدورهن ، بشكل يذكّرنا بما فعلت نساء الانديز بصدورهن ابان حروب الاستقلال في امريكا الجنوبية.
اما في الاردن خصوصا ، فان مفكرا اردنيا موثوقا به ، يخبرنا عبر ( عموّن ) انه وجد نفسه في مهرجان الازرق يقف امام السؤال الكبير: (الى اين تتجه ثقافتنا العربية وكيف لها ان تصمد امام رياح ما بعد العولمة وهي ما تزال تعاني من جراح العولمة ) وهذا سؤال كبير فعلا ويحمل في ثناياه كل الاجوبة الثقيلة ، التي علينا ان نتحمل عبئها لا محالة ، ومهما حاولنا ان نفصل الثقافة عن السياسة او عن الزراعة والسياحة ، فان مجريات الحياة بطبيعتها جارفة ، وتجرف في طريقها كل هذه التصنيفات التسهيلية ، و معها ينجرف كل ما ومن ليس له جذور في المكان ، ومن المصادفات الطيبة ان هذا السؤال الكبير بكل تفرعاته الاكبر ، تم طرحه في مدينة الازرق شقيقة السويداء ، ففي السويداء علم سلطان باشا الاطرش كل السياسيين ان يجلسوا امامه على التراب ، وبقيت عبارته ( لا تجعلوا فاصلا بينكم وبين الارض) خالدة بعده!