الصحافة تربت على يد النبوة ، على ما هو مفترض ، لانها رسالة ، تقول الكثير ، وتبشر بالتغيير ، وتكشف الفساد والعلل والامراض وتحذر وتنذر.
هذه هي مهمة الصحافة ، غير ان الصحافة حين تجلس في حضن السلطة عمياء ، لا تسمع ولا ترى ولا تتحدث تتحول الى ما هو اشبه بالطفل الضال والكسيح والفاسد في وقت واحد ، تتكسب وتبحث عن مصالح رموزها ، وهكذا صحافة تقتل صاحبها ومن تخدمه قبل ان تضحك على ذقون الجماهير.
في تجربتي صحافة تونس ومصر ، قرأنا كلاماً كثيراً ، عن زعامة مبارك ، وعبقرية زين العابدين ، واذ كان مبارك يوصف بكونه الاب والعظيم والمحنك والحكيم ، كان زين العابدين يتم وصفه بما يشبه الالهة ، حتى انه حين عاد من الحج قبل سنوات ، نشرت له اعلانات التهنئة في الصحف تحت عنوان "حج مبرور وسعي مشكور" ولم تجرؤ الاعلانات ان تقول: "وذنب مغفور": فالزعيم لا ذنب له اساساً.
سقط النظامان وخرجت الصحف وطبالوها بسواد الوجه والضمير ، وباتوا امام مهمة صعبة ، اما الانقلاب على تاريخهم واما التبرير والاعتذار ، واما الانتحار فكآبة ، وفي كل الحالات تسقط الصحافة غير الحرة بسقوط الانظمة ، وتبيد معها باعتبارها بوقا يغني كذباً ويقدم الخدمات للزعيم ، فيما يستفيد ايضا حامل البوق بشكل او اخر ، طبطبة على ظهره ، او ابتسامة صفراء في وجهه.
اذا عدنا الى بعض ما في الصحافة اليمينة والجزائرية ، هذه الايام ، تتكرر ذات القصة في بعض الصحف ، فالكل يستنفر قواه للدفاع عن اخطاء الزعماء والحكومات والانظمة والقمع وضياع حقوق الناس ، وكأنهم لا يتعلمون من تونس ومصر ، ويعيدون ذات الانموذج ، بل ان المثير للغثيان والضحك في آن واحدة ، هو اعادة انتاج انموذج "البلطجية" في شوارع القاهرة المدافعين عن السلطان ، على شكل مسيرات مؤيدة للرئيس اليمني في وجه خصومه ، ومسيرات مؤيدة للرئيس الجزائري في وجه خصومه ايضاَ،،.
الصحافة تشرب من مشرب النبوة بشكل او اخر ، وهي مقدسة اذا اوفت بشروط القداسة ، وهي تبقى مقبولة لو كانت تتأرجح بين النبوة والطينة الانسانية ، فتقول شيئاً وتخفي شيئاً ما ، فتبقى القصة مقبولة مؤقتاً ، غير ان سقوط الصحافة في وحل التمجيد والرقص وتغطية الجسد الممزق بحروف لا يراها احد ، مهمة فاضحة ترتد سلباً على من يقوم بها ، وعلى من يتعرض لها من جمهور.
كثرة تأتي وتظن انها تقدم خدمة عبر شكل اعلامي ما ، غير انها تكتشف لاحقاً انها تسببت بأضرار كبيرة فادحة ، لانها سقطت في نفاق رخيص ، وفي محرمات واستفزازات معيبة بحق الشعوب ، وبحق من ارادت خدمته فأساءت له ، وعلى هذا لو حللنا افتتاحيات الصحف المصرية والتونسية ومقالات الكتاب ، لاكتشفنا انهم كانوا يرشقون وجه السلطان بماء النار ، في لحظاته الاخيرة ، دون ان يدرون ، وهذا سر من اسرار المهنة ، فمن يأتي ليسمسر عليها وعبرها ، لا يعرف انها تقود الى حرق الظالم ، في مهمة عكسية النتائج ، تمدح وتمدح ، غير انها تسبب نفوراً ونفوراً.
الصحافة سلطة وكل الدنيا تقول لك ان بيع استقلالها ، وجلوسها في حضن سلطة اخرى ، له نتائج وخيمة جداً ، وان عليها ان تبقى في مربع المهنة والحياد والمعلومة والشفافية ، دون قفز او اجندات او تأجير للاقلام مفروشة كانت ام خالية ، باعتبارها شقة على ضفاف النيل او شاطئ المتوسط ، وغيرهما من انهار جارية ومتوقفة.
ختمت النبوة ، بسيد الخلق عليه الصلاة والسلام ، غير ان سماتها الانسانية بقيت موزعة تحت عنوان الصدع بالحق من القاضي الى الصحفي.. فلا نشهدن شهادة زور ، وليس ادل على ذلك ان من انتصر في تونس ومصر ، كان الصحافة الحرة التي تجلي بتعبيرات شعبية في مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية ، فيما سقطت الصحافة المطبوعة في حبرها الاسود.
قل حقاً. فان لم تقدر ، فلا تشهدن زوراً وبهتاناً.. هذه هي الخلاصة،.
mtair@addustour.com.jo
(الدستور)