قبل يومين أُتيحت لي فرصة حضور حفل إشهار وتوقيع كتاب "المضامين الفكرية في مسرحيات جمال أبو حمدان" للمخرج والناقد المسرحي "باسم الدلقموني".
الحضور كان زهيدا ولكن حميميا: الأستاذ الكبير سهيل إلياس، والفنان الكبير زهير النوباني بصفته نائبا لنقيب الفنانين الأردنيين، والفنانون القديرون عبد الكريم القواسمي والدكتور أشرف أباظة وريم سعادة.. وآخرون.
الفعالية احتضنها مسرح أسامة المشيني في "اللويبدة" الأمر الذي زاد من رمزية الفعالية وحميميتها.
لستُ متذوقا ولا بالحدّ الأدنى للمسرح، لا كنص أدبي يُقرأ، ولا كعرض فني يُشاهد، ولكن تلبيتي لدعوة الصديق الروائي جهاد الرنتيسي للذهاب إلى الفعالية كانت "كرمال عيون" الشخصين اللذين تدور حولهما الفعالية: باسم الدلقموني وجمال أبو حمدان.
لا أدري هل من حسن حظي أم من سوء حظي أنّ دراستي للبكالوريوس قد كانت في جامعة اليرموك نهاية القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة، أي أيام كانت الجامعات ما تزال تحتفظ بالبقية المتبقية من قيمتها ومكانتها كجامعات حقا وليس دكاكينا أو مفارز، وأيام كانت النشاطات الثقافية والأدبية والفنية داخل الجامعات ما تزال تحتفظ بشيء من الوجاهة والجدارة.
وفي تلك المرحلة كان الأستاذ باسم الدلقموني على ما أذكر، بشعره الطويل وهيئته الكاجيوال الأنيقة التي تستثير غيرة الشباب وإعجاب الصبايا، هو مسؤول النشاط الثقافي في عمادة شؤون الطلبة، وقد كان من الشخصيات المحبوبة لدى كل مَن عرفه واحتك به من الطلاب حتى أولئك الذين ليست لديهم اهتمامات فنية.
شخصيا لم يسبق لي مشاهدة أي من أعمال باسم الدلقموني المسرحية، فذروة نشاطه وازدهاره كانت في فترة سابقة لتفتّح وعيي ونضوج اهتماماتي، ولكن صيت الأستاذ باسم كان يصاحبه كأحد أهم المسرحيين في الأردن، والذي لم يحظَ غالبا بالحفاوة والتقدير اللذين يستحقهما عربيا كحال العشرات من المبدعين الأردنيين.
أمّا بالنسبة للكاتب الراحل جمال أبو حمدان فهو من أكثر الكتّاب الذين أثّروا بي في حياتي، مع أنّني لم أقرأ أعماله، ولم يسبق لي أن التقيت به شخصيا!
ففي حداثة عهدي مع الكتابة، شاءت الصدف أن أقرأ نص شهادة قدّمها جمال أبو حمدان حول تجربته الإبداعية منشورة في مجلة "أوراق" الصادرة عن رابطة الكتّاب الأردنيين، هذه الشهادة ساهمت كثيرا في تشكيل وعيي وشخصيتي ككاتب لاحقا.
في شهادته تحدّث جمال أبو حمدان عن الذين "أطروه فأغووه" في بدايات تجربته، وهو الدرس الذي أعطاني في وقت مبكر حصانة لا بأس بها ضد المديح وضد الذم على حد سواء.
لا يوجد شخص لا يحب المديح، ولا يوجد شخص لا يسوؤه الذم، ولكن شهادة أبو حمدان علمتني أن ليس كل مديح هو مديح يعتدّ به، وليس كلّ ذم أو انتقاد هو انتقاد يستحق أن تأخذه على محمل الجد.
درس آخر تضمنته الشهادة وهو حديث أبو حمدان عن "هامشية" فعل الكتابة، وذلك بخلاف الوهم الذي يعيشه الكاتب أنّه بكتابته "سيغيّر العالم".
قد يرى البعض أنّ هذا درس سلبي أو نصيحة هدّامة، ولكن لا، فأولا اقتناع الكاتب بهامشية الكتابة يساهم في تهذيب أناه المتضخمة. وثانيا، وهو الأهم، التسليم بهامشية الكتابة يجعل الكاتب بطريقة من الطرق يتعامل مع كلّ نص يكتبه بمنطق "ضربة المقفي" متحللا من أي أوهام أو حسابات للربح والخسارة قد تنسحبةعلى ما يكتب.
بالعودة إلى الفعالية، بعد أن أشبعت الدكتورة صبحة علقم الكتاب موضوع الفعالية تقديما وعرضا، انتقل الحديث إلى الأستاذ باسم الدلقموني الذي جاء كلامه مقتضبا ورشيقا، ولكن في نفس الوقت موحيا وحزينا.
الأستاذ باسم، والذي ولد سنة 1948 بما تحمله من رمزية في الوجدان الوطني والقومي، اتخذ "النكبة" ثيمة تسمه وتسم جيله من الكتّاب والمبدعين.
نكبات كانت وما تزال، ومن هنا تأتي أهمية وخصوصية جمال أبو حمدان الذي كرّس كتاباته للحديث عن النكبات التي تغشى المواطن العربي في تفاصيل حياته اليومية.
ومع أنّ كتاب الدلقموني لا يخلو من تحفظات ومآخذ على بعض حيثيات أسلوب جمال أبو حمدان في الكتابة المسرحية، إلا أنّ ذلك لم يمنع الدلقموني من التأكيد أنّ أبو حمدان هو من قامات الكتابة المسرحية على مستوى العالم ككل، وليس فقط محليا وعربيا، ولكن كما سبق وأشرتُ، أبو حمدان هو مثال آخر من بين كثيرين قد دفعوا ضريبة أنّ الساحة الثقافية في الأردن بحساباتها وتوازناتها وقصر ذاكرتها هي بيئة خانقة للإبداع أكثر منها بيئة راعية للإبداع والمبدعين.
كلام الأستاذ باسم، والجو العام للفعالية، أوحى لي بفكرة إنتاج سلسلة بعنوان "المنكوبون" تتضمن شهادات هذا الجيل من الفنانين والمبدعين، شهادات حقيقية وليس مقابلات المجاملات أو المناسبات أو ملء أوقات البث.
المشكلة في حدود إطّلاعي وتجربتي، أنّ أيّا من الجهات ذات العلاقة ليست معنية بإنتاج مثل هذه الأعمال، ولو أنّ لدينا جهات معنية بمثل هذه الأعمال لما احتجنا أساسا لإنتاج مثل هذه الأعمال!
طول العمر ودوام الصحة للأستاذ باسم الدلقموني وسائر حضور الفعالية، وواسع الرحمة والمغفرة للكاتب جمال أبو حمدان وسائر المبدعين الأردنيين الراحلين.