العشائرية في ميزان الإسلام
م. هشام خريسات
05-10-2023 07:43 AM
في صدر الدعوة الإسلامية وقفت العصبيات القبلية والعشائرية بالمرصاد للدين الجديد وحاربته حربا شعواء بدعوى مخالفته دين الآباء والأجداد والعادات والتقاليد التي جبلت المجموعات البشرية على التمسك بها ومقاومة كل من يحاول تغييرها، ولكن الإسلام بما عرف عنه من واقعية في التعامل مع الظروف المختلفة والمراحل المتعددة، ورغم مناقضة فكرته من حيث المبدأ للعصبية الجاهلية والعنصرية الشوفينية إلا أنه حاول توظيف القبلية والعشائرية إيجابيا واستخدامها لتحقيق أغراضه في نشر الدعوة وإزالة العوائق من أمامها أو تخفيف وتحييد العناصر الضاغطة وصولا في النهاية إلى المجتمع المسلم الذي يتفاضل بالتقوى والناس فيه سواسية كأسنان المشط والذي يدع التعصب الأثني للعرق أو للون أو للجنس أو للقبيلة أو للعشيرة ويتخذ من العقيدة جنسية والإسلام هوية.
تمثل هذا التعامل الإيجابي والواقعي في القرآن الكريم والسيرة المطهرة بالتوجه في الدعوة نحو العشيرة أولا بقوله تعالى 'وأنذر عشيرتك الأقربين' ثم من خلال العديد من الأحكام الشرعية كالميراث والنفقة والعاقلة في الدية بدءا من الأسرة الصغيرة فالممتدة فالعشيرة كلها.
كما تمثل في السيرة النبوية بالتركيز في الدعوة على بعض الأشراف والسادة في قومهم طمعا في إسلام من وراءهم لما للرابطة العشائرية من قوة في الولاء والبراء والتأثير والتغيير، وتمثل أيضا في اختيار الأنصار في بيعة العقبة الثانية لممثليهم بالانتخاب وفقا للفرز العشائري وبالنسبة العددية عن الأوس والخزرج، أما في المدينة المنورة بعد الهجرة فكان الأمر أشد وضوحا وتفصيلا في الشورى التي تؤخذ من كل قبيلة وفق ممثليها وسادتها وهم ذاتهم في الجاهلية والإسلام "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" ، وبتمثيل إقليمي ومناطقي موزع بين المهاجرين أهل مكة والأنصار أهل المدينة وبنص القرآن الكريم "والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"، أما في الغزوات والفتوحات فكثيرا ما كان يؤخذ البعد القبلي والمناطقي بعين الاعتبار فيؤمر على القوم سادتهم إذا أسلموا وقدموا الولاء للدولة الإسلامية، وفي فتح مكة المكرمة كانت الكتائب تدخل البيت الحرام مصنفة تصنيفا قبليا وقياداتها منها، مع أن الفتح كان في آخر المطاف والإسلام عزيز، فلم يكن التعامل الواقعي والإيجابي مع العشائرية تعاملا مؤقتا أو آنيا أو براغماتيا مصلحيا بل كان تعاملا مبدئيا صادقا.
واليوم في مجتمعاتنا العربية نحن ما بين ليبراليين وعلمانيين وتقدميين ينظرون إلى العشائرية نظرة الرجعية والتخلف، وما بين عشائريين متعصبين يحطمون بعنصريتهم المتطرفة كل أسس المجتمع المدني المتحضر ودولة المؤسسات والقانون والعدالة والمساواة، أو بين إسلاميين وقوميين لو أنهم فقهوا إسلامهم و تاريخهم وحضارتهم فقها عميقا وواقعيا لامتلكوا بوصلة الوسطية والاعتدال والحكمة والاتزان.