على الرغم من التصريحات المتشددة المتبادلة بين سفيريّ واشنطن وطهران لدى بغداد, فان تشكيل اللجنة الامنية المشتركة بينهما, يدلّ على اتجاه الريح بشان التطورات العراقية الاتية.. ساتجاوز, هنا, عن الغضب المشروع حيال هذا الانتهاك الصريح لسيادة العراق وعروبته, فالبلد الذي تخلت عنه امته, يخضع, فعليا, لاحتلالين, امريكي وايراني. وها هما يعترفان ببعضهما بعضا, وينتقلان من التفاهم السياسي على دعم " العملية السياسية " الاحتلالية الى التنسيق الامني. وكان هذا الاتجاه متوقعا منذ " توصيات بيكر ـ هاملتون" التي جرى تعديلها, واقعيا, بحذف الدور السوري في الملف العراقي.
من الضروري ان نذكر, على الضد من ادعاءات ادارة بوش الصغير, بان ايران لعبت دورا رئيسيا , لم يكن هنالك غنى عنه, في انجاح الغزو الامريكي للعراق, وتامين استمرار احتلاله, من خلال:
ـ 1ـ مشاركة حلفائها وصنائعها العراقيين في المؤتمرات السياسية التي عقدها الامريكيون قبيل الغزو, وفي التحضير له, سياسيا وامنيا, وفي تزويد الاحزاب الكردية والمذهبية بالسلاح, وترتيب غزو اخر على الهامش للمليشيات التي دربتها المخابرات الايرانية استعدادا لهكذا يوم اسود.
ـ 2ـ المشاركة الكثيفة في نشاطات تدمير الدولة العراقية وتخريب ونهب بنيتها التحتية, ومطاردة واغتيال كادراتها, وذلك بالتساوق مع خطة بول بريمر الاجرامية.
ـ 3ـ دعم وتاييد " مجلس الحكم " البريمري سيئ الصيت, الذي منح الاحتلال " شرعية" محلية, ومن ثم وضْع كل الثقل الايراني وراء ما يسمى " العملية السياسية" القائمة على المحاصصة المذهبية والاثنية, والمسؤولة عن التذابح الاهلي في العراق.
ـ 4ـ تزويد المليشيات المذهبية بالمال والسلاح والدعم السياسي, ودفعها للعمل, تحت الادارة المباشرة لجهاز " اطلاعات ", لقمع القوى العربية المقاومة في جنوب ووسط العراق, وتامين الاستقرار للاحتلال الانجلو ـ امريكي. وقد حقق الايرانيون, في هذا المجال, نجاحا باهرا, عندما اغرقوا " التيار الصدري " بالعصابات, ودفعوه للانتقال من خندق المقاومة الى خندق " العملية السياسية".
ـ 5ـ وبالتساوق مع خطة السفير الامريكي نغروبونتي الاجرامية لنشر فرق الموت المذهبية, واشعال الحرب الاهلية, لعبت طهران دورا مزدوجا بالغ الخطورة, حين قدمت, في الان نفسه, الدعم لتنظيم " القاعدة" الرجعي الانقسامي المعادي للشيعة, وللعصابات المضادة من النوع ذاته, المعادية للسنّة. بالاضافة الى الدور المشؤوم في التحريض وادارة عمليات القتل تحت اشراف ضباط المخابرات الايرانية.
ـ 6ـ وعندما فشل كل ذلك في كبح جماح المقاومة والمعارضة في كل انحاء العراق, واصبح خطر الحرائق الامنية يهدد القوات الامريكية نفسها ودول الجوار, وخصوصا ايران, وجدنا الطرفين يلتقيان, واضعين خلافاتهما جانبا, لتنسيق جهودهما الامنية ضد المقاومة العراقية, وليس ضد " الارهاب" الذي استقدمه الاحتلالان المشؤومان اصلا.
هكذا, نلاحظ ان نظام الملالي سار خطوة خطوة, وراء البرامج السياسية والمخابراتية الامريكية في العراق, وعمل تحت ظلها. ولكنه, بالطبع, عمل ويعمل لحسابه: فقد تمكن من بسط سيطرته على البصرة ومحافظات الجنوب, وعلى البرلمان والحكومة والاجهزة الادارية والامنية, في سياق التحضير لوراثة الاحتلال الامريكي الذي اصبحت تكاليفه باهظة ويؤذن بالرواح. وعلى هذه الخلفية, نستطيع ان نفهم الصراع بين واشنطن وطهران, مثلما نستطيع ان نفهم اتجاههما لعقد صفقة, لها اسس مشتركة عميقة في الحسابات الاستراتيجية للطرفين . فكلاهما لا يريد, وليس له اي مصلحة, في قيام دولة وطنية في العراق . الامريكيون لا يريدونها من اجل ضمان سيطرتهم على الثروة النفطية العراقية, والايرانيون لا يريدونها لضمان هيمنتهم على الاقليم, انطلاقا من سيطرتهم على بلاد الرافدين. وبالنتيجة, يمكننا القول انه لا غنى لنظام الملالي وادارة بوش الصغير, عن التفاهم على صيغة لتقاسم النفوذ في العراق, يؤمن لكل جانب, الحد الادنى من مطالبه.
بيد ان الفشل, سيكون نصيب الطرفين, ذلك انهما لن يتمكنا من تامين قاعدة وطنية محلية للصفقة . وسيظل العراق غارقا في العنف والفوضى, الى ان يكسر الاحتلالين معا.