هناك "حدوثة شعبية"، قيل إنها مصرية الأصل، لذلك من يرويها يعطيها عنوان "إللي اختشوا ماتوا...!!"، وقيل إنها شامية، لذلك يعطيها الراوي "إللي استحوا ماتوا..!!".
ملخص "الحدوثة" أن هناك مجموعة من الناس ذهبت إلى أحد الحمامات العامة، وبينما هم في الداخل شبَّ حريق أتى على كل ملابسهم، فتدافع الموجودون في محاولة للنجاة، ولما وصلوا إلى الباب انقسموا إلى قسمين الذين "لم يختشوا" ولم "يستحوا" خرجوا عراة فنجوا من الموت، أما الذين "اختشوا" أو "استحوا" فقد احترقوا مفضلين الموت على فضيحة العراء.
يبدو أن هذه "الحدوثة" راحت تبرز كثيراً في أيامنا هذه، وذلك لأن فريقاً من الناس قد أصر على إحيائها. فهناك من نعلم أنه عاش عالةٌ على هذه الجهة أو تلك، وأنه كان، وما زال، ربيبها، وفي لحظة غياب الرؤيا نراه سرعان ما ينقضّ على وليّ نعمته، فقط، ليركب الموج.
وإذا ما تبدل الأمر تبدل معه، وعلى رأي مثلنا العاميّ "كيف ما هبت الريح يذرّي".
وهناك من هم أسلط منهم، وأدنى درجة، فهم يظلون يقفون على الأرصفة، ينتظرون التيار الأقوى فما أن يقترب منهم، حتى تراهم لا يشاركون فيه فقط، ولكن يقودونه. وإذا ما انهزم تركوه وعادوا ليقفوا على الرصيف ينتظرون تياراً آخر يمر بهم.
أما الفئة الثالثة، وهي التي تمارس "الدونيّة" باحتراف، فهم الذين يخلقون لوليّ نعمتهم التهم، ويكيلون له الشتائم، وهم يعلمون أنهم كاذبون في كثير مما ذهبوا إليه. وإن سألتهم ما دافعهم قالوا بكل صلافة، "المصلحة العامة" أو "مصلحة الوطن". وكل ذلك سبيل لأخذ المزيد من المكاسب ونيل المزيد من العطايا.
وعلى أدنى درجة من سلّم عدم احترام الذات وعدم الحرص على الوطن، يجلس أساتذة الانتهازية والنفاق والنفعيّة، حيث تراهم يتراكضون في أزقة المواخير الخارجيّة، التي هي في الأصل حاقدة على البلد، وتتربص به الدوائر، ويبدأون يستعرضون عضلاتهم، ويتشدقون بكلمات ساقطة، ويطلقون العنان في الإساءة إلى بلدهم وهم لا ينكرون أنهم في الأصل، وفي الحقيقة يسيئون إلى أنفسهم، لأنهم في يوم من الأيام كانوا جزءاً من عملية صناعة القرار في هذا البلد، ثم تنكروا له وجحدوا له فضله عليهم.
لا يدَعي أحدٌ أننا "المدينة الفاضلة" ولا يقول أحد إننا "نقيّون من كل عيب"، ولكننا نقول إن هناك دولاً لا عدّ لها ولا حصر، تُعاني من أزمات، ولكنها تنكفئ على ذاتها وتجلس تتحاور مع نفسها حتى تصل إلى الحل، وتهتدي إلى الوسيلة التي تُنقذ البلد، ولا تسمح لأحد بأن يُتاجر بكرامتها.
والأكثر صلافة وعُجباً فإن هذه الفئة، أول ما تلقاها تسمعها ترفع شعار الزهد في الوظيفة العامة، أو في تسلم السُلطة، فقط لأنها لا تستطيع أن تكون إيجابية ومفيدة، وفقط لأنها ساقطة من الداخل.
في معظم دول الحضارة والحداثة، هناك معارضات ضخمة وقادرة ومثقفة وواعية وراشدة وصادقة وذات تجربة، ولكننا لم نر أيّ من هذه الدول قد طُعنت من الخلف، من قِبل أبنائها وبمعاونة الغريب.
نعود ونكرر أننا في بلد فيه بشر يصيبون ويخطئون، ولكننا مع الأسف، نملك نماذج من المعارضة التي تُعارض فقط من أجل أن يُقال "إن فلاناً مُعارض" و"قد قال كذا وكذا". رغم أننا تحت سلطة لم يصل بها الأمر حدّ الخلط والخوف والقمع الذي نراه، حتى في كثير من الدول التي تدّعي التقدم والعصرنة.
نحن لا نقول، أبداً، أن نسكت على الخطأ، أو نُمرر الزلل، أو نُخفي الخلل، ولكن نقول إن التشميت ورفع العقيرة بالسباب والشتائم، دون منهجية موضوعية صادقة أمينة، سيفضي إلى الإرباك، بل والأخطر من ذلك أنه سيقود إلى الكفر بهذه المعارضة، وبالتالي بناء كوادر شعبية، هي أكثر منها نقاءً، تُعاديها وتُحاربها، وعندها سنفقد معنى التعددية ومبدأ الرأي والرأي الآخر.
دعونا نحتفظ بحيائنا وكراماتنا وصدقنا، حتى لو متنا داخل الحمام العام.