مكتب الراي في البلد… عبنده والدرس الاول
أحمد سلامة
02-10-2023 05:25 PM
* كل فكر تقزيمي للانسان لا يعول عليه
حين وافيتها آواخر السبعينيات، كانت الراي بسيطة في عدد كوادرها وذلك افضل، (كان جهاز التحرير والمندوبين لا يتجاوز ال ١٥ زميلا… والادارة لم تتورم بعد بجهازها المنتج!!
باشرت الدوام في معية الزميل مجيد عصفور يصطحبني معه كل يوم بحدود العاشرة صباحا، وننتهي من الجولة على مناطقه الاخبارية، كان يغطي كمندوب رئيسي وزارة الخارجية، البلديات، والامن العام، التربية والتعليم والاشغال، وربما وزارة الصحة…
لفت نظري في مجيد اناقة ملبسه فهو عماني حتى العشق… ولقد اسهم مجيد منذ اللحظة الاولى التي تزاملت معه، في ادخالي الى عالم عمان من زاويته هو،
لقد لعب ثلاثة بصورة حاسمة انخراطي في عالم عمان الساحر… كانت تلك السيدة المجيدة (سعاد سعيد الطباع) يرحمها الله (حماتي)، من فصحتني في جبل اللويبدة وجبل عمان على معنى الحصر، وكذلك اسماء العائلات وعادات الناس منذ الاربعينات.. كانت تلك السيدة رحمها الله قد تحصلت على شهادة (السيرتيفيكا) ورغم انها قد ولدت في معان لكن ارسلها سعيد الطباع لاكمال تعليمها الاعدادي في دمشق… كنت اجالسها ساعات وهي مقلة جدا في الكلام لكني استجوبها فتنصاع لرغبتي في التعلم وتقول لي اشياء كانت مذهلة في حياتي لاحقا…
كان الثاني مجيد عصفور… فمجيد يعرف الكثير من تفاصيل عمان لدرجة تحس انك تجالس انثروبولوجيا متخصصا، وأخطر ما في وعي مجيد العماني انه لا يضيف وجهة نظره الى الحقيقة، يسلمك المعلومة (مجرومة) بلغة اللحامين…
اما الثالث… فكان ابو علي صاحب كشك الثقافة يرحمه الله، وكان صديقا حميما يعرف البخلاء ويذمهم ويعرف الكرماء ويمدحهم، ويدرك من المثقف الحقيقي
وابو علي… كان كنزا لي دوما يمدني بكل معرفة، كان يومنا مجيد وانا يبدأ على حواف العاشرة وننطلق بسيارة سرفيس، واول ما لفت نظري ان (مجيد) لم يسمح لي أن أمد يدي على جيبي لادفع مرة واحدة، ولقد تولى ذلك عن طيب خاطر وبجود اصيل…
كان يحب أن يتأنى في شرطة العاصمة ومن هواياته رغبته في الاستماع لقصص القاء القبض على مجرم غريب، او عاهرة سقطت في شباك الامن، او لص محترف..
ورغم انه لا ينشر هكذا اخبار في (الراي) إلا أنه كان يحب الاستماع إلى تفاصيلها، وأدركت أن تفاصيل قاع المدينة جزء من ثقافة الانسان تعلمه اشياء مفيدة!!!
ما ان ننتهي من زيارة الاخ عون الخصاونة في وزارة الخارجية، وسالم جرادات في التربية والتعليم، ويوسف الغرايبة مدير شرطة العاصمة، وكان مجيد على صداقة مع بسام الحمود، ثم يعرج على عبد الرحمن الشرع رئيس قسم الشرطة القضائية في العاصمة…
لقد فوجئ مجيد اننا ننادي بعضنا عبد الرحمن وانا بابن عمي، وشرحت له صلة القرابة في الطريق الى مكتب البلد.. من وزارة التربية والتعليم ناخذ سرفيس البلد وننزل قبالة قصر العدل، كان هناك مكتب الراي في بناية غامضة جدا تحوي فندقا ياوي نادلات النوادي الليلة، وشركة او شركتين..
دخلنا الى المكتب فصدمني عدم نظافته كانت الكنبايات كالحة السواد، ويقوم على خدمة المكتب شخص متجهم يشرشر الحزن من كل اطرافه كان اسمه (احمد الهو) وربما انه يعود لاصول يمنية… ونكتب اخبارنا وتأتي دراجة تحمل ذلك الكيس من الاخبار الى مبنى الجريدة… أي لا دوام لنا في النهار بصحيفة الراي، نذهب عند المساء لمتابعة نشاطاتنا الصحفية…
رأيت في المكتب الاستاذ محمد ابو غوش، وكان ذا صيت طاغ كمندوب، وعمر عبندة تعرفت عليه يبدي تحكمه في المهنة واعتقد انه الوحيد الذي كان تحصيله جامعيا في كل فريق الاخبار….
عمر… تخرج من كلية الحقوق في جامعة القاهرة.. كذلك تعرفت على زهير صيام، كان غير متفرغ ويعمل في وكالة الانباء الاردنية
من كل تجربة هذا المكتب.. ظفرت بالقصة التالية الجديرة بالذكر..
بعد مرور شهرين ويزيد على عملي كمندوب، وقد خصص لي دوائر ليست على مستوى عال من وفرة الاخبار لاغطيها، وكان من ضمن
ذلك مبنى قديم لكنه انيق في جبل عمان هو (صندوق قروض البلديات والقرى) وكان يديره رجل فاضل (هاجم التل) وهذا الصندوق لم يظفر قبلي بتغطية منتظمة، ووفر لي الاخبار اليومية، وعثرت به على ضالتي،
وكان التوجيه ان نجمع اكبر قدر ممكن من الاخبار والتقارير قبل حلول اجازة العيد المبارك ليتم تغطية الفراغ بعد الاجازة…
وفي ذات يوم مذكور في حياتي المهنية، وعلى حواف العيد ذهبت للصندوق اريد تقريرا اضافيا، وقلت للسكرتيرة كل عام وانتم بخير،
تركتني ودخلت لمكتب المدير العام وربما انها طلبت منه عيدية لي!!
ناداني هاجم بيك وقال لي كل عام وانتم بخير وناولني مغلف كاكي.. سألته: شو هاد يا سيدي؟! قال لي: عيديتك يا ابني..
شرحت له بهدوء انني اتقاضى راتبا محترما مقابل تغطيتي لاخبارك وانا لست من هؤلاء ولا يجوز للصحفي ان يتقاضى عيديات؟!
اتذكر ملامحه كأنها الأن، خجل واحس بالحياء، قال لي: والله يا ابني يا احمد ولا انا اؤمن بهذا بس هيك خبروني، على كل حال اعتذر منك
ونهض من خلف مكتبه وقبلني. وقال لي هاجم التل: اجلس!!
جلست، مد يده على درج مكتبه وسط طاولته وناولني رزمة من اوراق قائلا: هذه احسن عيدية لك خبر خاص فيك، شكرته وغادرت
في الطريق حاولت ان افهم فحوى تلك الاوراق فلم اوفق، كنت غرا بعد في المهنة!!
وصلت لمكتب المندوبين، كان عمر عبندة ومجيد عصفور فقط في المكتب… قلت موجها كلامي لمجيد: هاجم بيك التل عرض علي عيدية!.. واذ بعمر عبندة يقول اوعى يكون كسر عينك وقبلتها؟!
اجبته وطمأنته بأن لا، وأخبرته أنه منحني هذه الرزمة من الاوراق!!
كان من عادة (عمر عبندة) مداعبة شاربيه الكثيفين حين يركز وهو يقرأ، باشر ملاعبة الشاربين كنت اقف جواره قال لي اقعد يا (عرصة) كانت هذه كلمة عمر حين يحب ويدلل… قال لي يلا حاول تكتب خبر هذه الاوراق اقرأها… والحق انني قرأتها ثلاث مرات ولم اعثر على الكنز!!!
وقف عمر عبندة من طوله وقال لي اكتب..
عمان —- الراي
من المنتظر ان تصدر الارادة الملكية السامية عقب عيد الفطر المبارك بالغاء (صندوق قروض البلديات والقرى) وتأسيس بنك تنمية المدن والقرى.. وعلمت الراي ان كافة ديون البلديات والمجالس القروية سيتم الغاؤها..
وبعد ذلك، اكمل نظام او قانون البنك
كانت اول مرة يكتب اسمي على الصفحة الاولى على خبر بالراي.. من تلك التجربة ادركت مبكرا انني لست (فالحا) في وظيفة المندوب، وبالفعل ظللت على تواضع في انجاز فضيلة في الخبر الصحفي ورحت الى عالم (التحقيق الصحفي) الذي اؤيد غابرييل غارسيا ماركيز الذي وصف التحقيق الصحفي (بانه اعذب جنس من اجناس الكتابة والتعبير عن الذات)
كانت الراي اول درس تلقنه لابنائها الذمة المالية، والتقيد بانضباطية تفقد فيها وظيفتك ان ارتكبت الحرام…
كنا نصاب بحالة من الذهول حين نرى تجاوزات تقع خارج الراي وكان للامانة والذكر الطيب من رعى هذه القيم النبيلة محمود الكايد…
البدايات كانت بسيطة حتى انتهينا من فترة التجربة التي تمتد لثلاثة اشهر… بعدها اخبرني مجيد ان الحاج جمعة يود ان يراك عند السابعة مساء
هل توترت ؟!
وقع ذلك لان مهابة الحاج جمعة كانت تفوق اية مهابة.. سلمني الاستاذ مجيد لشخص رغم ان ملامحه سهلة لكنه لم يكن ودودا معي وفيه استعلائية بسلوكه كان هو السكرتير الخاص للاستاذ جمعة حماد (احمد حمو)… وبجواره يجلس رجل كل شيء فيه ضخم عيونه ملامح وجهه طوله ووزنه.. كان متجهما جدا وغارق في مسائل إدارية إنه توفيق كيوان
هذا مكتب سكرتاريا الاستاذ جلست لما يزيد عن ربع ساعة دخل اناس وخرج اخرون واحمد حمو لا يعير وجودي أي إهتمام.. كان يقرأ في مجلة اجنبية!!
بعد قليل ومن دون ان ينظر الي قال تفضل اخ احمد
كنت اول مرة اكون فيها وجها لوجه مع الاستاذ جمعة حماد
لقد تأسس على هذا اللقاء كل حياتي، دخلت إلى مكتبه مندوبا عاديا، وخرجت من عنده بعد ان تسلحت بثقته وابوته.. وكان ذلك من محاسن القدر.