في طفولتنا كانوا يرفعون بيننا وبين البنات أسواراً عالية من المحرمات والتابوهات!!، فلا يجوز بتاتاً أن نلعب أو نرتع مع البنات، وكانوا يخوفوننا من أن نقرب هذا الحرم الحرام، وكل من يقربه يتحمل نتائجه: فالذي يلعب مع البنات؛ لدغته أفعى ومات!!!، لكننا كنّا تواقين أن نتسلق تلك الأسوار ونتخطاها، ونتحدى الأفعى اللعينة بأن تلدغنا: فنحن نغدو أقوى بنفس البنات وبقربهن، فلا تقوى علينا الحيات!!. فما من شيء ألذ من الماء البارد على العطش، إلا أن تلعب مع بنات الحارة بيت بيوت، وترتوي من ظمأ، محلقاً بروح النشوة، طائراً بأجنحة الرقة، منتشياً بحرير البهجة!!، ولا شيء يضاهي ويساوي ذلك المرح البريء للبنات!، ولا شيء يعدل دلعهن المعسول!، فتشعر بأنك الديك الوحيد الفريد، في مدرسة الدجاجات الرائعات!!.
(أم جرس) كانت أدلع بنت في حارتنا خجولة مدللة!، لا أحد يجرؤ ويطلب منها أن تطعمه قطعة كعك، أو أن تنفخه (مصّة) حلوى، ولا أحد يقدر ويربت على دميتها القماشية الجميلة، فهي تملك أقوى صوت بكاء في العالم!!، فما أن يقرب منها ولد، حتى تطلق صفارة الخطر!!، فتطل أمها من الحوش وتقصفنا بشتائم لاذعة أقوى من لدغ الحيات الرقط!!.
كنّا نلقبها (أم جرس) لأنها كبرت ودخلت المدرسة، وفي رقبتها ظلت تتدلى(اللهاية)، ولا تفارقها كالجرس في عنق العنزة، هذه البنت شبت على الدلال، وصارت اللهاية رفيقتها، رغم أن الذباب لا يفارقها!!.
ذات مرة سطوت على دمية (أم جرس)، وما أن هممت أن أهرب، حتى أطلقت صفارة الإنذار، فعدتُ سريعاً إليها ودسست اللهاية في فمها الفاغر، فسكتت أم جرس، وانسحبتُ بغنيمة جميلة مزركشة!!.
اللهاية هي حلمة بلاستكية تغمس بالماء المحلى، وتعطى للطفل؛ كي يتلهى بها، ويسكت، وقد ينام عليها، ولهذا تسمّى بالمنومة أحياناً، ولأنها تضفي سلاماً ناعماً على البيت، بعد صراخ الأطفال، فقد سماها البعض (صانعة السلام)!!.
الأطفال كانوا يعتادون عليها، ويكبرون وهي في رقابهم مدلاة، وهذا شائع لدى فئات المجتمع الفقيرة، فمص اللهاية يوفر للطفل بعض من الراحة والطمأنينة، والشعور بالشبع الكاذب، لكن المشكلة أن بعض الأطفال قد يدمنون على استعمالها، فتبقى معهم حتى وقت متأخر!!.
إسرائيل لم تفطم بعد، فهي أم جرس العالم الجديد، فلا أحد يقرب منها لأن صفارة إنذارها تدوي في البيت الأبيض مباشرة، وهذا معروف. ولكن ما نتكهنه أن لأمريكيا
عشرات اللهايات المختلفة!!!، فلكل فم يفتح في هذا العالم لهاية مناسبة كي يظل السلام الأمريكي عميماً على العالم: المشكلة أن اللهايات الأمريكية ليست حلمات بلاستيكية، بل هي حجارة تترد بالحجم، فلكل فم حجر يملأه: إنها الأمومة الجديدة للعالم!!. ramzi972@hotmail.com