(الراي) مذكر… ظفرت برقة الانوثة
أحمد سلامة
01-10-2023 03:24 PM
* كل صحافة لا تكون عربية التوجه لا يعول عليها في بلادنا…
كانت الشخصية الثالثة (المدماك الثالث) في الراي، هو رجا العيسى، او العم ابو عيسى كما كان يحلو لي مخاطبته، وكان يفرحه ذلك…
لقد توطدت علاقتي مع الختيار كثيرا حتى انه دعاني الى بيته ذات عشاء واحسست بالحرج الشديد، للمناخ العام في المنزل، كان بيته على الدوار الرابع فيه ابهة، لم نكن قد ظفرنا برويتها في حينه، كان في المنزل (الكلب تشيكو) وهو من فصيلة عريقة، له مطلق الحرية في التطواف بالمنزل، وكان يرتدي جرزة في شتاء ذلك العام (Handmade)…
كان الخدم يروحون بانضباطية شديدة كانك في قصر عابدين، ومداخل المنزل كلها تعبق بروائح الياسمين لغزارة الياسمين التي اضحت اشجارا، كذلك كان طراز الضيوف، من المرحوم عبد المجيد شومان واطلع!!
احسست بذلك العشاء بغربة شديدة، فكها، حين اقترب احد الضيوف الرفيعي المقام، وقال للاستاذ، ما عرفنا الشاب؟؟
هل احسست بقلق او توتر او حياء؟! لقد وقع كل ذلك في داخلي… لكن للكبار طريقتهم في رفع الناس وشأنهم لأن الكبار هم ابناء الناس
… مد عمي الاستاذ رجا يده ووضعها على كتفي بصورة حنان ابوي، وقال للسائل مع ابتسامته التي لا تقلد بدفئها، بهدوء (اعرفك على الاستاذ احمد، هذا ولدي من شباب الراي الصاعدين) واضاف على هيئة اليقين (احمد سيكون له شأن في عالم الصحافة) وبحسرة اعتقد انه فاجأ بها الضيف (والله انا ما ا نجبت اولاد لكن اعتبر كل شباب الراي ابنائي واعتز بهم)
وايضا كانت انواع الاطعمة والحلويات وكل طقس العشاء اول درس حقيقي لي في التمدين… التمدين القادم من روائح البحر
كانت ابهة (يافا) كذكرى عابقة بالطيب والفخامة التي كانت ترد على لسان والدي ابان شبابه حيث كان واعمامي يترددون عليها قد تبلورت حقيقة ناصعة في عشاء البدايات عند عمي رجا..
اول مرة احسست بصلة قربى تربطني ليلتها بالاستاذ محمود الكايد رحمه الله الذي وحده حضر العشاء من طبقة لا تمت بصلة لكل من كان وحتى الهيئة كنا (هو وانا) خارج النص…
وهنا اود وضع راي بين قوسين استطرادا واستنتاجا من وحي ذلك العشاء!!
كثير منا حين يتحدث بجهالة في السياسة ينسب الناس كلهم غربي النهر حتى البحر بنسبة ذات مغازي تكمن في نوايا المتحدث فيقال (فلسطيني) في ذات الوقت يتم رد الناس ما بين النهر وبين الصحراء شرقي النهر الى مدن وحواضر وبوادي وعشائر مختلفة فيقال (فلان كركي) او من (بني حسن) او معاني، وسلطي، وطفيلي، وهكذا…
رغبت وضع هذه المداخلة في اطار (الانثروبولوجيا) بعيدا عن اية ظلال سياسية.. واود أن ابدي رأييي في هذا الخطأ الداهم اجتماعيا.. فالذي اولى ان ينسب لمكان واحد هو المواطن شرقي النهر حيث ان نشأته وارتقائه كانت باتجاه واحد وضمن صناعة دولة ذات رسالة منذ ما يتجاوز المئة عام، والفوارق بين كل تجمعات الناس متقاربة في التحصيل الطبقي والمعرفي مع استثناءات جد بسيطة وخصوصية انفردت (السلط كحاضرة بها منذ القرن السابع عشر، وكذلك اثر المسيحية العربية انى وجدت صنعت بعض ذلك التميز!!!
…اما فلسطين فقد كانت الفوارق فيها حاسمة جدا وبصورة قاطعة والتسرب من طبقة إلى أخرى يأخذ طابع التسلل الفردي لأن مدنا دهرية (يافا حيفا الرملة اللد عكا)، كانت على تواصل مبكر مع حضارة المدن الاوروبية، وكان هناك تبادل معرفي وثقافي بين الطرفين
واذا كانت المدن الاوروبية قد لعبت دورا عظيما في انشاء الهويات الوطنية الاوروبية
منذ ان باشر غاريبالدي محاولته التوحيدية لايطاليا منذ عام ١٨٦٦، ان الذي حال ان تودي المدن الساحلية في فلسطين ذات الدور في اوروبا
هو انقضاض القوى الاستعمارية عليها مبكرا وكذلك لم تتنبه نخبتها الى اهمية صناعة السفن وبالتالي لم تمتلك الاساطيل التي تدفع عنها الغوالي..
تلك حكاية لا دخل لما انا فيه الان ما وددت ان اخلص منه الى نتيجة حاسمة ان ابناء السواحل في فلسطين متقدمون جدا على ابناء الداخل.. واتذكر ان والدتي كانت دوما تقول لي نحن نعرف اللوبياء والفاصواليا، ولم نكن نعرف الملوخية حتى وقعت نكبة ٤٨، وجاء اهلنا بها من الساحل وذلك امر منطقي لان الزراعة في الجبل لم تكن مروية،
ثمة فارق مهم ايضا في اصل البشر اندمج الكثير من سكان الشواطئ في الجنوب مبكرا (يافا) مع المصريين، وفي الشمال مع موارنة لبنان (حيفا) بينما ظل الناس في الداخل من لخم وجذام وكندة ولم يتسن لهم الانفتاح على غيرهم طوال حقبة الاحتلال العثماني الطويل اثره…
كانت يافا بابنائها وبمكانتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، تشكل حالة اكثر من متقدمة ليس فقط على ريف الداخل وحسب بل على المدن الداخلية (مثل نابلس والخليل وبيت لحم).. لقد كان العم رجا العيسى في القلب من كل هذا بل فوق هذا فابوه رحمه الله اول فلسطيني صار بلقب وزير في حكومة تمثل العرب (عيسى العيسى) مستشار الاعلام ووزير في حكومة المغفور له الملك فيصل بن الحسين في الحكومة العربية السورية في المملكة السورية…
وابوه… اول من صنع في جنوب فلسطين صحيفة يومية بمهنية رفيعة الشأن واسماها (فلسطين) ولقد سبق عيسى العيسى نظيره في الشمال (نجيب نصار) بسنتين حين اصدر صحيفة الكرمل في حيفا (سنة ١٩١٣)
والعم رجا كان من اوائل الفلسطينيين الذين ظفروا بتعلم المهنة اكاديميا في الجامعة الامريكية ببيروت منذ اواخر ثلاثينيات القرن الماضي واضحى هو مجدد الصحيفة… وصانع مكانتها المرموقة وهو رحمه الله الذي كتب اخر افتتاحية فيها حين تم الغاؤها بقرار عجائبي من الشريف عبد الحميد شرف، ودمجها مع جريدة المنار، لتنتجا (الدستور) في عمان
كان مقال العم رجا (نعود حين تعود) وظل هذا العنوان الصحفي احدى اهم درر المهنة الخالدة من ضمن عناوين رسخت في الضمائر…
لا اعتقد ان العم رجا كان من ضمن الشركاء الاربعة (جمعة حماد، سليمان عرار، محمود الكايد، محمد العمد)… لقد كانت حصة الحاج جمعة حماد ضعف حصص الثلاثة، لانه على ما اشيع من تحت بيع الحكومة للراي دون المبنى والارض، كانت (لـ جمعة) وليس لـ مجموعته، لكن هكذا صار
وكان العم رجا منهمكا في وكالة التوزيع الاردنية مع زوجته التي ورثت من ابيها اللبناني مهمة توزيع الصحف، في طلوع جبل عمان.. لقد الح جمعة حماد على العم رجا لينضم لفريق الصناعة المبهرة في عالم الصحافة خلق صحيفة من العدم، وتنازل له عن نصف حصته اكراما لدوره ومكانته، وادراكا من الاستاذ العابق بالخبرة جمعة حماد لاهمية التوزيع وحنينا صادقا للشراكة التي جمعت القوي (فلسطين) إلى المبتدئة (المنار)
كان انضمام العم رجا للراي بعنوان واحد وفاء جمعة حماد للعيش والملح والحاجة لان يضم التوزيع الى امبراطوريتهم الصاعدة… وشغل مباشرة العم رجا نائبا لرئيس مجلس الادارة… والعم رجا هو من ذلل كل الصعوبات التي تواجه مبتدئا مثلي لاقتحام عالم الراي رحمه الله
ففضله ورعايته وصداقة روحه السامية لا تنسى…
لقد حدق بي بمروءة لن تبرح روحي حتى اخر شهقة في حياتي.. حين طلبت موعد مع تيسير / ابو رزق السكرتير المدير الوفي للاستاذ مطلع الالفية للمثول بين يدي العم الاستاذ رجا في وكالة التوزيع..
ذهبت اليه هذه المرة لاوقع عقد التوزيع بين صحيفة امثلها (الهلال الاسبوعية) وبين الوكالة التي يمثلها الاستاذ… جلست امامه في مكتبه، بعد ان سلمت على المدام في المكتب المجاور وتذكرتني في الحال رغم كل تلك السنين، تشرفت بروئيتها في وليمة الحب ببيتها ١٩٨٠م وكان هذا اللقاء الثاني بها عام ٢٠٠١م… مد الاستاذ رحمه الله نظرة الي اخترقت كل روحي.. وبادرني بالسؤال… (شو رجعك لوجع راس الصحافة؟! ما انت رحت عالديوان وخلصنا!!
حين ادقق في ملامح ومضمون سؤاله الان بعد كل هذه السنين اقول كان سؤاله محض ابوي خالص ويقطر صدقا ونبلا.. اجبته: والله يا عم ابو عيسى هيك صارت شو نساوي رجعنا للمهنة من جديد!!
أكمل، مبروك احمد، واستدعى (تيسير / ابو رزق) وقال له حرفيا (انت بتعرف احمد شو عندي؟!) اجاب ابو رزق: نعم سيدي بعرف، وأضاف: الهلال تعامل كانها صحيفة رجا العيسى مفهوم!؟ امرك سيدي
كان رجا نسيجا وحده لا يتكرر ولا يمكن اعادة تكوينه لذا فإن جيناته على ما اظن (جفلت وجافت الانجاب خشية ان يكون الخليفة اقل شأنا من العم رجا)
كنت دائم التردد على الوكالة وانا في الرأي وظل الزميل مجيد عصفور، ويوسف العلان من المواظبين معي على الزيارة، وكانت زياراتنا تطرب الاستاذ رجا
ذات يوم كان العمال ينزلون من شاحنة قادمة من بيروت كراتين تحوي مجلدات كاملة لـ (Incicolobidy Britanica) لقد ابهرتني حين رأيتها وطلبت من الاستاذ ان اقتنيها قال بمرح منضبط: يا فلاح هذه سعرها بالآلاف الححت اجبته: اسددها بالتقسيط ارجوك يا عمي ابو عيسى
وتدللت عليه كإبن، قال مازحا مادا يده: كم رح تدفع دفعة اولى.. اخرجت من جيبي 15 دينارا ما كنت املكه ووضعتها امامه على الطاولة…
رن جرس الاستدعاء صعد ابو رزق من الطابق الارضي لمكتبه، قال: اعمل معاملة لـ احمد في الانسايكلوبيديا وسلمه اياها الان واعطيه الاطلس هدية مني واعمل له معاملة مالية يسدد ٣٥ دينارا شهريا واكتب في ذلك لـ الراي… وقد حصل!!!!
بعد ما دفعت قرابة الستة اشهر ذات يوم كان ابو عزمي رحمه الله قد لاحظ ان مبلغا يساوي ٣٥ دينارا يقتطع من راتبي، فارتاب في ذلك… وسألني ذات يوم على مسمع المدير العام وفي مكتبه كنا… قال لي ابو عزمي متهكما: انت عندك نفقة لمين بتروح احمد شهريا
قلتله ياسيدي لا نفقة ولا هم هذه لوكالة التوزيع الاردنية بسبب انني اقتنيت (الانسايكلوبيديا بريتنيكا)!! وادفع شهريا قسطها…
ابو عزمي لديه حب للعلم والجسارة عليه لا يليق وصفه الا انه (مدهش في حبه للمعرفة، خرمنجي في التقاط النص العميق، وهو رقيب عتيد يمسك قطرات الماء المقصودة باصابعه)
نادى ابو نيقولا المدير المالي، وطلب منه ارسال رسالة الى وكالة التوزيع لايقاف الاقتطاع من راتبي وتحويل المبلغ على جريدة الراي وتسدد من ارباح الجريدة من حصتها في وكالة التوزيع…
رحم الله الخمسة البررة،
جمعة حماد
كان جمعة حماد اول الابوة، وكان سليمان عرار استاذ السند والمؤازرة من بعيد.. كان حبوبا وكان كريما وكان مهنيا يتابع التقدم.. ورحم الله العم رجا عيسى العيسى، مدرسة التجهيز المهني الاولى في المهنية والحداثة.. اما ابو العزم فهو في لحمنا ودمنا وروحنا ولا تحلو الحياة من غير رفقته كان اخا واستاذا وصديقا عظيما يقبل الخلاف ويحترم التفاوت وهو الاسري الذي لم يشغل باله كثيرا بقضاء وقت مع عزمي وشقيقاته كان متفرغا لنا ولقد اعطى جيلنا الحب من ذهب دون ان يتعب… ومحمد العمد اطال الله في عمره فلقد كان في الادارة وصلتنا به عبر الكبيرين (جمعة ومحمود)
ولقد شهد له الكثير ممن عرفه عن قرب انه مثال في الانضباط والحرص على المصلحة العامة… هؤلاء هم من صنعوا هوية الراي وحددوا مسارها ورفعوا من شأنها
كيف صار كل ذلك وكيف ذهبت الراي مع اول هبة ريح مع الريح وهل كانت غير محصنة ومن ظلمها وكيف كانت تدار تلك قصة ما ساوافيه بالتفصيل المجمل لاحقا..