رسائل تيسير السبول .. قسوة العالم حين يكون محسوسا
25-07-2007 03:00 AM
*تيسير النجار
في الثانية الا ربعا ،من عصر يوم 15 ـ 11 ـ 2006 يكون قد انقضى ثلاثة وثلاثون عاما على انتحار الاديب الاردني تيسير سبول في 15 ـ 11 ـ 1973 الذي سدد رصاصة قاتلة باتجاه رأسه هرباً من شيخوخة اسمها "الهزيمة"، لازمت الامة وبالتالي انهكت روحه. انتحار تيسير سبول وضع الساحة الثقافية الأردنية في حالة من الذهول جراء قراره والذي لم يكن مفاجئاً حسب ما روى أقرانه . تيسير سبول كتب في مجالات أدبية مختلفة ، حيث كتب الرواية والقصة القصيرة والشعر والمقالة الصحفية والترجمة والنقد والدراسة بالاضافة إلى تقديمه لبرنامج ثقافي في الاذاعة الأردنية لمدة أربعة أعوام لا انقطاع .
وتعد روايته "انت منذ اليوم " الذي كتبها بعد هزيمة 1967 المريرة وفازت بجائزة مسابقة "دار النهار اللبنانية للنشر " مناصفة مع رواية "الكابوس" لأمين شنار من أهم الروايات العربية التي تقف في مصاف الروائع الروائية العربية .
بطل الرواية "عربي" وراويها يحمل الكثير من سمات تيسير سبول حسب رأي الكثير من النقاد ، فعبر الرواية يقدم سبول صورة لعلاقته مع أبيه ، وعلاقته بحزبه الذي فصل منه لأنه رفض وصية أحد فكره .
رواية تيسير سبول بالاضافة لقولها عن علاقته بأبيه وبأسرته وبتنظيمه الحزبي تصور الهزيمة العربية بكل تجلياتها المادية والمعنوية لتدين المجتمع العربي بأكمله وتحمله بالتالي المسؤولية .
لا يمكن ان نقول عن رواية "انت منذ اليوم " انها بكائية على وطن ضاع ، ولكنها تعري المجتمع وتفضح المسكوت عنه من ظلم وبطش .
ولسبول من القصص القصيرة "قصة هندي أحمر " التي تروي قصة شاب يرث عن أبيه كرهه للهنود الحمر ، وحبه للنساء البيضاوات وصالات السينما وعندما يموت الأب يحصى الابن التركه ويرحل إلى بيروت حيث يجد هناك ما يبحث عنه .
أما في قصته الاخرى "صياح ديك "والتي تقع في ست وعشرين صفحة من المقطع الكبير فان تعالج قصة مسجون مفرج عنه يستقبله صديق له في وقت الافراج عنه ليكتشف بعد خروجه من السجن الدنيا بشكل جديد وان كل شيء قد تغير ويدين سبول في قصته الجري وراء الدعاية الرأسمالية والمظاهر الخادعة .
واضافة لما كتبه سبول من دراسات وانطباعات نقدية وسياسية وترجمات يقف الشعر في صدارة ما كتبه فديوانه " أحزان صحراوية " الذي نشر عام 1968 فان الحزن لا يترك أي حرف من الديوان دون ان يسكنه ، ولأن تيسير سبول شديد الحساسية لما يكتبه فان رغبته في انهاء حياته مبثوثة على صحفات الديوان ويعبر عنها من خلال اليأس وعندما توقف سبول عن كتابة الشعر علل ذلك بقوله : " جميع الشعر الذي يكتب لأمة مهزومة ، هذه الأيام هو غثاء ، ولا أريد ان أزيد على أكوامه غثاء آخر " .
الاديب سبول على الرغم من كثرة النقاد والباحثين الذين ولجوا ادبه وشغلوه،الا ان الباب المتعلق برسائله ما زال بكرا تماما ،وكما هو حال خلوّ الساحة الثقافية العربية والاردنية من كتاب متفرد حول ادب السبول الروائي يبين من خلال كم الدراسات التي كتبت عن روايته الوحيدة اوجه التجديد ومواطن قوتها،فكذلك الامر فيما يتعلق بمراسلاته التي تكشف نظرته بجذرية لمنظورات ومفردات الحياة التي اغلقها السبول وراءه ،وهو اهم من حمل سفينة الادب الاردني لشاطىء التجديد بلحظة تراجيدية ما زالت متوقدة في ذاكرة كل من عرفه،وتلك اللحظة هي لحظة انتحاره.مراسلات تيسير السبول لاصدقائه ولزوجته ، تعددت عبر اسفاره التي يمكن ترتيبها على هذا النحو: «بيروت ، سوريا ، بيروت ، السعودية القاهرة ، وفلسطين» ، وابرز تلك المراسلات مع صديقه وتوأم روحه الاديب صادق عبدالحق ، الذي صادقه منذ العام 1955 ولم تنقطع صداقته واخلاصه له حتى بعد غيابه الذي اختاره السبول بطلقة لم توقظ الموتى على حد تعبير د. مي اليتيم زوجة تيسير سبول.
عبر الرسائل مع صادق عبدالحق ، نجد ان السبول قد تعامل مع الصداقة كشكل من اشكال المطلق التي اكتشفت العالم ولم يكد يكتشفها احد ، وبالتالي جسد ما فيها من اشجار متشعبة عبر الرسائل التي لم تستطع ان تنجي الجسد من فرط الهزيمة والخذلان.وتكشف الرسائل المكانة الخاصة للاديب صادق عبدالحق ، الذي تساءل وهو يتصفح الرسائل مجددا: «هل كان ممكنا ان تكون كلماته بعد رحيله بعض ذكرى لفارس من فرسان الحياة الحارة؟».
خلال رسائل تيسير سبول تتضح لنا اكثر حالاته صدقا مع نفسه ومع من حوله لانه كان بطبعه وطبيعته صادقا كل الصدق ، فهو بخلوته عبر الرسائل كان اصفى ما يكون للبوح النقي الصافي .
الرسائل جسدت فرار السبول من قسوة العالم المحسوس من خلال نوع من الاختبار الصوفي المقصود تجلى باغماضه عينيه عن العالم لكي يفتحهما على عالم جديد دائما ، كما وتكشف الرسائل مدى القلق والصراعات الداخلية في شخصية السبول وتدلل على مدى اقتراب الراحل السبول من متطلبات الروح وآلامها ومسافاتها، وكيف كان الليل يملأ تلك المسافات بأسراره وحرارته بلا هوادة.صرخات ويأس وعدم سكنت الرسائل كأنها المكان الناجي من الاخطار ، وكأنها الفضاء الاخضر من الليل.. من الاسرار. ومن هنا فرسائل تيسير السبول لصادق عبدالحق كشجاعة الصداقة التي ضمتها ، انها الكراسة الدافئة الممتلئة بالمحفورات والرقم والارفف والصهيل ، وبالاحزان المرئية التي تفتح فاها باتساع مثلا لمغنين في الاوبرا.لقد جسدت الرسائل مقامات واحوال الكشف عن الروح المشروخة ، دائمة المناجاة للصداقة باعتبارها الشاطىء اليانع من الحياة: «الان افكر بقليل من العمق بحياتي وحياتك ، اعني الجانب المرتبط منها ، فأجد تلك الصداقة الرائعة التي شدتنا لبعض ، تلك المحبة النادرة الوجود ، كلها كانت اشبه بسمفونية شوبرت التي لم تتم».ويتضح عبر الرسائل رفض السبول لأي اطار او قالب يمكن ان يحد من ذاته الباشقة والراكضة صوب الحرية والكرامة ، كما يتضح بجلاء حنينه للأمكنة التي احبها وسكنها.الرسائل رسخت حياتها المباشرة وهي تشكو الغياب ، ليس غياب الصديق فقط ، وانما غياب الانا عن الاحلام التي تطلبها وتنشدها للامة ، اما المباشرة "الواقعية" في الرسائل فقد جسدت القرار والانفعال في شخصية السبول لا المنطق ، وعلى الاخص حين نجد ان الرسائل دعت الاشياء والاماكن الى التحدث والقول عما تعرفه عن كائنة المشروخ بمحبة وفلسف كما حوله ، ومن هنا فالرسائل تتساءل وتكشف اكثر مما تطمئن ، وتستقر في ترتيب سأم الاسفار وضياع احلام الامة.
ان السبول اراد ان ينفتح على اللانهاية حول يقينه من الوجود الى فكه ، وذلك من خلال انصهاره في وحدة الكون ولوحته الواحدة ، لذا نجده في الرسائل يعتصر الحقائق حبة... حبة للحد الذي يجرح المحبوب الذي يطمئنه على محو وجوده، وعل في محبة السبول لفكرة الصداقة اولا ومن ثم تجلياتها ما يعيد الكثير من المتعلقات في ادبه وانتحاره ، وعل في ذلك ، ايضا ، ما يفسر كثرة المدعين لصداقته بعد انتحاره ، والسبب يعود في ذلك لمعرفتهم عشقه المتجدد للصداقة.وعلى الرغم من الفرق في المكانة الادبية بين الاديبين ، لا ان عرى الصداقة بينهما كانت الاشد بروزا ، وان كشف رسائل السبول عن قلقها يضم بعض الملامح والاسباب التي ادت به لرؤية الطريق اقصر مما يجب.
ان رسائل تيسير السبول مع صادق عبدالحق هي تماما بمثابة بوح لتيسير مع ذاته ، وهذا ما يؤكد اهمية هذه الرسائل التي تكشف العديد من الجوانب الدقيقة في شخصية تيسير السبول ، وهذا ما يدعو الى اخذ تلك الجوانب من جديد في ادوات النقاد العرب والاردنيين على السواء.
رسائل تيسير السبول مع صادق عبدالحق تعد ابرز رسائل السبول مع اصدقائه ، لان الرسائل مع غيره متناثرة وقليلة واصحابها لم يكونوا بذات المنزلة والعلاقة كما هو الحال بين السبول وعبدالحق ، عدا رسائل السبول لزوجته مي اليتيم ذات الاهمية الشديدة وصاحبة المنزلة الخاصة والمنفردة حين نشرها.صادق عبدالحق يقول عن معرفته بصديقه تيسير سبول كنت اواخر الدراسة الثانوية لكلينا في كلية الحسين بعمان سنة 55 56و كنت اسبقه بسنة دراسية وسمعت باسمه لاول مرة من استاذ اللغة العربية الاستاذ عبدالرحمن الكيالي الذي ذكره وذكر كتابته في موضوع الانشاء ومحاولاته الشعرية باعجاب ، وتنبأ له بمستقبل لامع.برغم زمالتنا الطلابية في الحسين وسكن كلينا في معسكر «الزرقاء» انذاك لم نكن نتبادل الاعجاب ولا الحديث الخاص.. كان منطويا او متعجرفا ، وكان يقال انه قومي وبورجوازي ، كنت قرويا و«دينيا» ، وكان قد جمعنا مكان سكني واحد هو «الزرقاء» ومكان دراسة واحد هو «كلية الحسين» في عمان وكان انذاك يذهب معنا في الباص الذي ينقلنا الى المدرسة: طاهر حكمت ، صدام حابس المجالي ، علي مشعل ، حسين علي رشيد.. وغيرهم ، واول رؤيتي له كانت في الباص الذي ينقلنا من الزرقاء وكنت انظر اليه على انه منطو ومنعزل واقرب الى الاكتئاب.وبعد انتهاء التوجيهي عام 1956 التقينا ـ يقول صادق ـ على جسر سكة الحديد «مدخل الزرقاء» وفوجىء باهتمامي الخاص بالادب والشعر الحديث وبمجلة الآداب اللبنانية ، وتحدثنا عن خليل حاوي وكنت معجبا به جدا جدا ، ومن هنا كانت الآداب التي ضمت قصيدة حاوي سبب التعارف واللقاء بيننا والذي لم يتوقف فيما بعد ، وبعدئذ لم نفترق تقريبا ، وكان الاصدقاء يطلبونه عندي او يطلبونني عنده ، ومن اصدقائه آنذاك: هلال بطرس ، عدي مدانات، رسمي ابو علي ، وكان معجبا بطالبة كانت تسكن ايضا في معسكر الزرقاء، تغزل بها شعرا ونثرا دون جدوى وسنراه يلتقي بها في جامعة دمشق فيما بعد ويصوغ من علاقته الافلاطونية والراغبة بها قصيدته الممتازة «غجرية» التي نشرها في «الآداب» وبعد انتهاء عبدالحق من الحديث عن المرحلة الاولى قال: في المرحلة الثانية: انتقل "تيسير" الى الجامعة الامريكية في بيروت مبعوثا باعتباره من اوائل الطلبة في الدراسة الثانوية وبعد اشهر مزق كتبه وقلب طاولة الجامعة الامريكية في وجه الحياة الامريكية البيروتية الصاخبة ، سألته لم يا تيسير؟ كيف بوسعك ان ترفض نعمة الحياة البيروتية؟ كان غامضا وكانت اجابته دائما حول ذلك بكلمات قليلة: «انها لا شيء يا صديقي.. انها كذب...كذب... وزيف وتمثيل صدقني انها لم تكن الا كذبة: اشباه رجال وبنات فارغات»... الخ.ثم كتب اليّ ـ يقول صادث عبد الحق ـ من دمشق ، حدثني عن اصدقائه: هاني الراهب ، زكريا تامر ، علي الجندي ، وعن فتاة لم يسمها ، تحدث عنها بمحبة ورومانسية في رسالة له: «وحدها يا صادق جاءت وشدت على يدي وابدت اعجابها برأيي في الشعر الحديث... سأحدثك عنها فيما بعد».. وفيما بعد هو لم يفعل.. كتب اليّ عن شريكه في السكن فالح الطويل ، حدثه عني وجعله يكتب اليّ دون معرفة سابقة ، كان يعود في الصيف الى عمان والزرقاء نلتقي، عدد كبير من الاصدقاء: محمد زيدان محمد الجمل ، فايز الصياغ ، عبدالعزيز المعايطة ، راكان المجالي ، عدي ، قحطان ، رسمي وغيرهم وغيرهم.كنا نحب اغاني ام كلثوم وقصائد خليل حاوي وفلسفة نتشه «القوة» وفي اوائل تلك الفترة كنا نختلف مع تيسير حين عاد من دمشق يهاجم عبدالناصر اثناء الوحدة ، وحين حدث الانفصال فقط فهمنا ما كان يتحدث فيه ، في تلك الفترة ايضا نشر قصيدته «غجرية» و"وداعا غجرية" في الآداب ، لفتاة لم يستطع ان يكسبها في الزرقاء..ثم لفت انتباهها في جامعة دمشق ولكنها كانت - شأن الصبايا الفاتنات - ترغب في تعذيبه فعلت بكل ما لديها من قوة التعذيب.في تلك الفترة ، ايضا ، كتبت له مقاطع من قصيدة لي «جنين الوادي» فأثارت حماسته وجاءني من دمشق اكاد اقول خصيصا - ليهنئني.. التقينا «بقحطان هلسه» في «معان» اياما متصلة وحين ودعناه الى الطريق الصحراوي سرنا مشيا في مدى رملي شديد الاتساع وبلا معالم ننقل خطواتنا اللامجدية في ذلك المدى... تحدثنا عن كيفية يقطع البدوي تلك الامداء الشاسعة من الرمال عبر كل الازمان الماضية... وان خطواتنا تبدو بلا نتيجة... وحين عاد الى دمشق جاءتني رسالته ومعها قصيدته «احزان صحراوية» التي سمى بها ديوانه الشعري وفيها المقطع العذب «بدوي خطت الصحراء لا جدوى خطاه».في تلك الفترة - ايضا - جاءنا خبر دخوله المستشفى في دمشق بعد محاولة انتحار.. كان قد احب وعانى وشرع في الانتحار ولكنه خرج سليما وتزوج زوجته الحالية الدكتورة الطبيبة «مي يتيم» البحرينية الاصول الدمشقية الاخوال ، في تلك الفترة ايضا زار لبنان مرارا وتعرف الى ادونيس «علي احمد سعيد» وبزوجته «خالدة» «وقد زاره فيما بعد في بيته بعمان» وحليم بركات وخليل حاوي نفسه وكتب في تلك الفترة اقاصيصه القصيرة: «صياح الديك ، «وهندي احمر» ومترجمته «الخطيئة»» لادوارد مكارثي وفي الاقصوصتين يسخر من المجتمع البيروتي المتأمرك الذي سبق ان رفضه تيسير منذ الجامعة الامريكية ، وفي تلك الفترة - بختام دراسته الجامعية - كما ارى - وصل الى ذروة عطائه الشعري. فلم يكتب بعد رجوعه من الجامعة شعرا بمستوى قصائده في «احزان صحراوية» التي كانت حصيلة سنواته الجامعية الاربع الى جانب «ليسانس الحقوق» الذي رجع به من دمشق ، ولقد زرت وتيسير - فيما بعد - دمشق فعرفني بأصدقائه الكثيرين هناك من النجوم الادبية المعروفة اليوم ، كان متألقا محبوبا ومعترفا به في الوسط الادبي الدمشقي اعترافا تاما.وتحدث صادق عبدالحق عن المرحلة الثالثة بقوله: تزوج «تيسير» وسافر الى البحرين مع زوجته ، وثم الى السعودية للعمل وتعرف بأصدقاء والتقى في جدة بصديقه سليمان عرار وكاتبني: حدثني عن ر واية يكتبها باسم «التراب العقيم» عرفت فيما بعد انه مزقها ، لم يطق غربة الخليج الا شهورا معدودات فعاد الى عمان تنقل بقلق بالغ بين ضريبة الدخل ومأمور للتقدير والمحاماة متدربا في مكتب صليبا الصناع ، ومستقلا بمكتبه في الزرقاء لبضعة شهور ، ثم موظفا في ادارة «عالية» الخطوط الجوية ، ثم مستضافا في الاذاعة ثم موظفا فيها ، وهنا كما يحب ان يقول تيسير بطريقته - وقعت حرب الـ 67 كان ممرورا وساخرا: في اليوم الثالث من حزيران نزلنا «تيسير» وفايز صياغ ومحمد زيدان وآخرون الى الجسر وشاهدنا جميعا تلك اللوحة البائسة لحرب حزيران تلك التي رسمها فيما بعد في روايته «انت منذ اليوم» حين كنا عائدين نصعد مرتفعات السلط عشرة او اكثر في سيارة واحدة قديمة كان تيسير يردد بلا كلل من نشيد وطني لازمته «انت منذ اليوم لي يا وطني» - كما قلت مرارا - مبللين بالحزن والعار ، ومن هذه اللازمة لذلك النشيد الوطني اختار تيسير عنوان روايته «انت منذ اليوم» مضمنا اياه: «توقفه عن الانصياع او الاقتناع بكل ما سبق والبدء من جديد».رفض الانصياع لسلطة الادب الجاهل ، والحزبي المتسلق ، والاعلامي الكذاب والغوغاء الجهلة ، والدينيين من انصاف المتعلمين والمحتلين العنصريين كل تلك السلطات اعلن انه لن ينصاع لها ولا يقتنع بها ، وعليه ان يجد مرجعية اخرى لسلطة اخرى مقنعة ومحترمة.
ويتذكر عبد الحق من اصدقاء تيسير في تلك المرحلة: فاروق منصور ، خالد الساكت ، سليمان عرار ، عائشة التيجاني ، فريال زمخشري ، توجان فيصل ، جمال ابو حدان ، والاخرون.في المرحلة التي سبقت قيام «تيسير» «صفق باب العمر وراءه» كما كان لا بد يحب ان يقول تيسير ، كنت وصديقه محمد زيدان في الكويت ، وجاءنا الخبر هناك وقد عهدت الينا عائلته بأوراقه وبعد حين احتفظنا بنسخ منها واعدنا اصولها الى زوجته «مي» التي عملت على طبع ونشر آثاره كاملة.وختم الاديب صادق عبدالحق لمجلة نزوى بملامح من حياة تيسير كما شهدها ووضعها في نقاط محددة واوصاف اتصف بها تيسير كما رآها.نشأ تيسير في طبقة وسطى او اعلى من الوسط ، ضعيف البنية لكنه لم يكن معظم حياته يشكو من مرض معين ذكيا بل شديد الذكاء ، صادقا لا تبغض نفسه شيئا اكثر من الكذب والرياء ، كان يشرب ويدخن ، لم يكن مدن ، كان محبا للنساء ، والنساء كثريا ما اعجتهن شخصيته وجرأته ومظاهر اخرى في رجولته ، كان يلعب الشطرنج والطاولة والورق..وكان يكره العجز والشيخوخة فرفضهما ، كثيرا ما كان يصحبني ، ولعله صحب اصدقاء اخرين له ، في سيارته الصغيرة على طريق الجامعة ، ثم كان يبدأ لعنة العبث ، ويدوس البنزين «تيسير ..تيسير ايها الاحمق ماذا تفعل هنا... لماذا انت هنا الى الان».. كان معجبا بميتة «كامو» حين ارتطمت دراجته بشجرة فقضي عليه ومثله ما كان يرويه كذلك عن لورانس ومصرعه ، وبميتة همنغواي حين انقذف رصاص بندقيته في جوفه ، وبميتة الشاعر ماياكوفسكي ، ولو عاش لأعجبته ميتة صديقه خليل حاوي الذي لم يفعل الا ما فعله تيسير تماما ، كان يراها كارثة ان يعيش المرء في العجز والشيخوخة ويرى ان عليه بدلا من ذلك ان يتجنبهما بارادته ويمتنع عن الوقوع في مصيدة الستينات والسبعينات ، هكذا كما يقول دائما ويردد ما في لا منتمي «كولن ولسن»: العيش في اقصى حدود الاحتمال.ولقد تجنب «تيسير» العجز والشيخوخة ورفضهما لقد مضى بارادته كما احب: شابا في الرابعة والثلاثين فقط ، وهوذا يبعث فينا اليوم كذلك .
ــــــــ 2 ـــــــ
رسائل تنشر لأول مرة
في رسائله لصادق عبدالحق تيسير سبول.. الموت مر والحياة مرةوكل شيء مر وحتى المراسلة مرة
الرسالة 1
"فليدق الله عظامكم وليحسن الدق "
عمان في 9 ـ 10 ـ 1967
ايها الصديق المرمي بعيداها ان حلقة الشيطان تطبق يسمونها بالانجليزية Vicious Circle الحلقة الشريرة ، نعم ، عمان في 9 ـ 10 رسالة حزينة وبعد غد الكويت في كذا او الخ رسالة حزينة - ان الله القدير وحده عندما يتكفل بقصف رقابنا الهشه غير الجيدة الحياة ، نعم وحده ينهي فراغ خلقه الشر.
عندما كنت في البحرين كنت دائم التأثر بمنظر قارب مهجور على شاطئها حيث كنت اتسلى - لا بل اسلي النفس وفي ذهنك ان لم يكن في مقلتك عجل كاوتشوك على شاطىء وذات امسية كئيبة في الرياض اجهش صديق بغصة حلق فقال: قال الصديق:بكل تداوينا فلم يشف ما بناعلى ان قرب الدار خير من البعدويعلم الله ان الحزينة التي وعدت بيوم تفرح فيه فقدت اوانها ويعلم الله ان الشيخوخة على الابواب فهلا اعطتها الحزينة الوعد الحق.
استقالتك (1) قبلت ، هكذا اخبرني فاروق الذي قابلته بعد قليل من استلام رسالتك - رئيسك يرغب في ان يرسل جوابها لك مباشرة في الكويت ، ها انني احاول بدوري الانتقال الى جهة ما في العالم - ربما الى الكويت حيث لا ذباب في المطار ، الحمد الله يا ربي اذن على اللاذباب الذي انعمت - مرسي((2يا ربي. ربما الى جهنم العراق التي كانت امي تتمناها لي في شقوة طفولتي ـ اعتقد ان السيدة العراق مناسبة جدا.
المشكلة يا سيدي الاخ الحزين والحبيب انها امسية شتائية - وفي الشتاء تبدأ قدمي تتفكر ورأسي يقوم باعمال اخرى والله لا ادري كنهها تماما انما هي من فصيلة: احلام - تأمل - كسل - دور الركود الشتائي عند الضفادع وما شابه.انت ترى، اكتب لك متأقلما مع كونك غائبا. متأقلم تعبير سخيف ، اعني انا اكتب وانت حضور غائب معترف به ، في فمي - انا لا اتحدث عن غيابك بل انني لا اتحدث الا عن غيابك فبعد رحيلك الذي تموضع نهائيا ورحيل قطعة كبدي الجيدة المذاق الصغيرة محمد زيدان وبعد تلك الكوكبة الممتازة من فرسان الحزن الشجعان الذين عبروا بسنابك خيلهم طريق قلبي البري ، بعدكم ها ان الحياة كلمات كلمات. فليدق الله عظامكم وليحسن الدق يا ربي. احب ان تحملني عاصفة فتطوف بي فوق حقول الزيتون المغبرة - لا ارض لقدمي المفكرة العظيمة.وبعد: فإن شهادة حسن السلوك قد ارسلها جودت (3) ، ها انت فتى حسن السلوك وحسن الطلعة ولكن: حسن طلعتك ايه من غير صديق يهواك (4)؟الشتاء يدق الباب - اقتربوا ايها الاصدقاء - الواحد من الاخر اقتربوا اقول - صادق ومحمد لكما حبي مدفأة.
الرسالة 2
"وجودنا كله مر.. مر يا الله ما اشد مرارته"
أخي الحبيب صادق
تحية لقلبك الكبير
بعد قراءتي رسالتك الاخيرة بدقائق كتبت لك رسالة من تسع صفحات لا تزال معي ـ وسأمزقها لانها وتر مشدود قاس.واما الآن فلعلي في لحظة تعادل. فالاحرى اذن ان اكتب لك نموذجا مختلفا لا حبا في التجديد بل سأما من التكرار.احزنتني رسالتك في وقتها.. بدوت لي جد بائس رغم انك لم تكن متوترا.. والآن يا صادق في هذه اللحظة بالذات - والساعة تقارب العاشرة مساء - وانا استمع الى موسيقى كلاسيكية لا اعرف اسمها. الآن افكر بقليل من العمق بحياتي وحياتك اعني الجانب المرتبط منهما... فأجد ان تلك الصداقة الرائعة التي شدتنا الى بعض ، تلك المحبة النادرة الوجود ، كلها كانت اشبه بسمفونية شوبرت التي لم تتم. ولاعد الى ذهنك ان سمفونية شوبرت الناقصة لم تترك هكذا بدون نهاية لان الموت عاجل شوبرت - كما يظن كثيرون - بل لانه هو لم يرد ان يتمها... ولكن على اي ضوء احكم بأن صداقتنا الرائعة لحن لم يتم؟لقد كنت اتوقع واريد من اعماقي ان تكون خاتمة تلك المحبة هي حياة مشتركة... لا يهم جزيرة سعادة او مكتب محاماة مشترك - او مزرعة مشتركة - او دكان اقمشة او خضراوات مشترك غير ان الواقع انحسر عن غير هذا.. انا ادرس الحقوق هنا ، وانت تفكر في الدراسة بالقاهرة او المانيا او من يدري.. لقد استسلم كل منا لواقعه وسار في الطريق اللاانتمائي رغم انه في جوهره متطرف في لا انتمائيته.. نحن ادركنا من غير ضلالة او تزييف كم هي تافهة الحياة - والامل والسعي الدائب لتحقيق النسبيات - ورغم ذلك نحن نسعى وراء حياة من التي يسمونها كريمة او متوسطة او... الخ"قال المذيع الآن ان الموسيقى الكلاسيكية هي لباخ"آسف لهذه الجملة المعترضة واعود:ان الامل جد ضئيل في ان يجد كل منا شخصا يعوض الآخر... ومن هنا سأظل اشعر بالاسف - وهذا الاسف تنقصه الايام - لفقدي لك ، واظن الحال معك تشابه.
اذن: فقد التقينا ذات مرة - وكان لقاؤنا حادثة لها اهميتها عند اثنين في حالة سقوط مريع ، وهذا ما شدهما بعنف.. وعندما اموت اعتقد انني سأتذكرك واتمنى بشدة لو انك عندي تلفظ انفاسك معي..لماذا؟ نعم الا تتساءل: لماذا بقي هذا الالتقاء السقوطي المريع سمفونية ناقصة؟استطيع ان اجيب على القسم الذي يخصني من السؤال ولست واثقا من ان جوابك مشابه ام لا.كنت ولا زال على استعداد كلي لرفض المستقبل كله ، والدراسة واحلام الزوجة والفيلا والسيارة الخ...لو انني وجدت في وضع خاتمة للسمفونية خلاصي الكبير.. ولكن يا صادق - يا اروع الناس واحبهم.. انت قلتها.. سيدخل السأم حتى الى جزيرة السعادة..رغم كل هذا فإن تحقيق حياة مشتركة يبقى من اعز امنياتي.قلت في مطلع رسالتي انني شبه متعادل - غير انه من الصعب عليّ ان اكتب لصادق وابقى متعادلا - لان صادق ليس شخصا عاديا في حياتي ، حتى حينما يسخف فلست ادري لماذا احاول ان اعطي سخفه معنى عميقا واتأمل بمحبة واسف محاولا تمثل وضعه وهو يقرض شعرا يا رب سيجارة اشعلتها بيدي طارت وفي القلب دخان.هكذا كانت سمفونيتنا يا صادق الحبيب - وهي قصة مهما تآكلت بفعل السنين فسيبقى منها ذكرى لانها ليست بالمأساة اليومية العادية التي يمكن اعطاء حلول لها - انها كابوسنا المريع الذي فتحنا اعيننا عليه دون ان يفيق منه:الحياة ليست احب العبارات التي مسخها العشاق بتفاهاتهم - لكن الفراق مر
والموت مر
وكل ما يسرق الانسان من انسان مر
والحياة مرة
والملل - والليل - والوحدة - والضياع اشياء مرة
وجودنا كله مر.. مر يا الله ما اشد مرارته.
وريقي هو الاخر في حلقي مر.
لا يحق لاحد ان يحكم - ان الرب هو الذي يجرجرنا في الدروب التي يختارها. هل قرأت هذا؟ هل يمكن لنا ان نحقق راحة الاستسلام واليأس.. ونترك ذواتنا للرب؟؟ لقد فشل تفكيرنا كليا فهل يمكن لحواسنا ان توصلنا الى الحقيقة التي وراء كل ظاهرة: فلأردد جملا موسيقية واقول مع وليم بليك: «حين تطبق الكهوف على الفكر فإن الحب سيبعث جذوره حتى في اعمق اعماق الظلمة... من يدري؟»
كل الفاظ الوداع مرة
والموت مر
وكل ما يسرق الانسان من انسان مر
كم رددت مرارة حجازي وبدلت كلماتها
الكراهية مرة.. والحب مر... الفراق مر - مر - مر - مر - من حسن
حظنا اننا نموت يا صادق لان الموت آخر مر نتذوقه.. ثم... اللاشيء الكبير..فليوفقك الرب يا صادق.. وليحفظك لسن الستين ليقلل الرب من ضياعك - ويساعدك على تحمل وحدتك وبأسك المتغلغل - وليخفف من تمزيق انياب الوحشة لك.. ولينق المساء امام عينيك من الدخان والغبار.. واعذرني يا صادق الحبيب لقسوة الفاظي.
المراسلة مرة
والموت مر
وكل شيء مر .
الرسالة 3
"لا شيء في القلب سوى الريح المعولة في الخارج"
الحبيب صادق (5)
تماما وكما يمكن لقلبك المشعشع بالصفاء ان يعي يكتب المرء لصديقه الطيب حين يفتقد ما هو رمزه.ولو كان الحزن عميقا - او لو كان في القلب قدر جيد منه لكتبت اذن بحنو زائد.ولكن.. لا شيء سوى الريح المعولة في الخارج - اتلمس بعض صدى ولكن لا انه لا يوجد.لو كان الحزن يخيم (يزرع خيمة) في جناح روحي الهادئة لكتبت لك عن الندم ازاءك... ولكنك ايها الغالي (الغالي في المآل ، رغم النسيان الذي يبتعد بك كثيرا.. والصفاء غير المشعشع الذي تسير اليه روحي الان والذي هو ضد ذكراك) ـ ايها الغالي قلت واقول - انادي بخفوت دون مس من اللهب للتو ، او بعد ساعات من خصام مع الاحمق (رسمي طبعا).جلست هادئا ساكنا صافيا دون شعشعة.والريح معولة في الخارة ولا صدى. اقول ان ذكراك يطيب لها ان تأتي هادئة هي الان.وانت صغير الحجم تنسل في مجال العقبة الغريب وتدفىء نفسك ولا بد تنسى وننسى نحن ـ وهكذا ايها الصديق فمحور الخلاف بيني وبين الاحمق كامن في هذه الزاوية بالذات.هل نسير طائعين مع الآنية ـ بمعنى ـ هل لأننا ننسى الان يجب ان لا نستسلم لداعي التذكر الذي يهيب بنا ان نبقى ممهدين الدرب امام الاشياء الحبيبة حينما يخطر لها ان تفقد ـ هو ـ يقول لا... اعني ضميره الاحمق يقول ـ لا ـ .والآن بدأت قطرات من المطر تتشكل مع النافذة وكما وددتُ ان اكتب ـ على نافذتي ـ ولكن تنبهت ونكصت. وانني اهدي لشفتيك الارجوانيتين النضرتين بذكراي ـ حبي ـ عن ـ السيد ـ هدوء قلبه.
الرسالة 4
"جلست الى مكتبي واستوعبت حياتي كلها في برقة واحدة"
الصديق الطيب صادق(6)
انما في وضح الظهيرة تسقط علي رسالتك ، حيث يكون التعاطف سائخا لا يحبه احد. وكان العطاء الوحيد امنية لو انها جاءت في امسية الحياة البدائل وهذه الامور الشديدة الدقة. عجبا والله.تأتي رسالتك على حين اخيك (انا) اتخبط في سلسلة من القرارات المفاجئة المربكة ، حيث اضناني التفكير الممنهج بسبل الدَيْن لانني لن استمر في حياة معلقة ، لانني اكره كل هذا واحب كل ما هو سواه نكاية والله من بعد قصة عذاب سخيفة طويلة مملة. وهكذا ستراني عندك في مطلع الشهر القادم وقد بدأت منعطف حياة جديدة محملا بمشاكل ظهيرية بالدين والعمل الجدير غير المحدد. لتحل اللعنة على عظامي ان كان قد عذبني امر في العمر كما عذبني الظهر وامور الظهر التافهة في ابيضاضها.النغمة الحبيبة الاسيانه التي تنسل من سطورك الحزينة يا قلبي افضل الف الف مرة من صفاقة البحث عن النقود واشباهه - ستقول لنفسك تراه هذا الرجل نسي طعم الحسرات كي يتحدث بهذه الطريقة؟ لا والله يا اخي - انما الضيق الضيق يفجر دماغي.انت قد وعدتني وقد اقتنع دماغي الملعون ان عليّ ان اتأخر شهرا اخر ، وفيما بعد جلست الى مكتبي واستوعبت حياتي كلها في برقة واحدة ، كان المكتب امامي اسود اللون ملعونا - الى متى؟ الى متى؟ ما الذي تفعله انت يا هذا؟ لو انك فيما بعد ترى الى الطرق التي اتبعتها لكي احصل على بعض النقود... وبسرعة لكي انسف الجسور من ورائي قدمت طلب اجازة هو في الحقيقة استقالة وبدأت استدين..ان افهم تماما اين هو الصواب واين هو الخطأ... ولا زلت هكذا انا.ويا اخي ليت الصفاء يفرش قلبي الان.. انني لا اعرف كيف اكتب لا اعرف البتة والله.. استودعك الله. ربما اكتب لك ثانية.. اكتب لي انت وعفو قلبك من اجل رسالتك المسكينة.
الرسالة الخامسة
" يبدو ان سوء افتراض عام مفاده ان ما يكتب يجب ان يكون حارا او عظيما او ما شابه"
اخي العزيز(7)
كتابة الرسائل مهمة عسيرة على كل الناس. هكذا لاحظت اخيرا حول نفسي وحول اصدقائي - وغيرهم. لكن - يبدو ان سوء افتراض عام مفاده ان ما يكتب يجب ان يكون حارا او عظيما او ما شابه - هو المشكلة وهذا خطأ.انني اكتب لك الان وليس في ذهني اي شيء تقريبا ، ما عدا انه غير معقول ان نظل هكذا صامتين. امس قرأت رسالة من محمد الى جودة يقول بها انك تخشى ان يراك احد في الكويت فيسألك (لماذا انت هنا؟). احدى ملحك الجميلة. وكان محمد يتحدث بطريقة هادرة حول تعقيد الحياة والعمل - الامر المفهوم جدا طبعا - وكان اجمل ما في كلامه الحديث حول بقالية ما امتلاكها خير من وظائف العالم كله - وهذا ضمن الصورة العامة لماضي الاحلام وحقيقة اللاانسجام مع الحياة امر وارد للغاية. عودة الى جزيرة السعادة. لقد فكرت بان احثكما على جمع مبالغ من المال تكفي لحكاية ما من هذا القبيل. والحق انني كنت افكر في تجارة الارانب. ومعها طبعا بعض الدجاج والبقر وما شابه.حدثني عن مثل هذا بأقل بلاغة ممكنة ارجوك.. حبا بأخيك بأقل بلاغة ممكنة حدثني عن مثل هذه الامور.اظن بانك قادم في شهور - اليس كذلك؟.. انني مشتاق لك ولمحمد ولرسمي - والمؤسف انه شوق بلا لوعة.. ولكن فعلا مشتاق ، واكتب لي عن حياتك اليومية ومشاريعك الفكرية والشعورية فأنا بعد اتعامل بهذه الاشياء.عن شخصي ، فان الاكلين بعد ان ينهشوا من حقيقتي. وانني بعد محسوب متدربا عند صليبا (8) ولكن عنواني في الحقيقة عمان ص.ب 6165 ودعك من حكاية مركز البلدة فهل كل الوقت للدعابة.انني احبك كثيرا وتعلم ذلك جيدا
تحياتي لمحمد
الرسالة السادسة
" من يعطيني رصيدا مطلقا من الغفران"
ايها الصديق (9)
هذا المساء - احبك واذا وفدت عليّ رسالتك في الغروب الرمادي ان احسنت وفادتها ، انني احب اللغة ، هذا المساء ايضا.وقديما ، اذكر ، كنت استشعر الحنين للحزن عندما ارى جمالا ما يعبر - وهكذا فأنت تدرك حزني هذا المساء. لا ليس هذا هو الامر تماما رغم انني حزين وموحد هذا المساء.كان رسمي معي عندما وفدت رسالتك في الغروب وكانت زوجة - ابو وليد(10) الذي حمل رسالتك فقرأتها بصوت مرتفع دون تردد للجميع - سعد الجميع - ولسبب ما بدأ الحزن يقطر ثانية اذ نزلت الشارع وعدت.انهم يحبونك طبعا - جميعهم - دون استثناء وعلى درجات كما تقدر تماما انهم لطيفون جميعا وحزانى ايضا لعلهم.بالطبع ان في رأسي افكارا مسبقة كانت تجتمع متهيئة لتخلق عبر العضو المفكر فيّ اذ عدت من الشارع عازما على الكتابة.كنت اتذكر مقولتك: لا بد ان يفترق كل اثنين يوما ما. شيء من هذا.انك مخطىء ايها الصديق لا في المقولة ذاتها ، ولكن للنتائج النفسية شبه الموضوعية المحملة بالخيبة لهذه الحقيقة.ان في رأسي لفكرة جوهرية:اقول: ان خطأ لا مرئيا هو الاهم عبر هذه السخافة المسماة حياة.
ان الامكانات هي المهمة على كل نحو قلبتها. ان هذا ليسعدني بحزن ، فاذ يفترق وهكذا ترى.اثنان محبان على منعطف ما (حتى بالمعنى الآخر الذي تفكر به) فان امكانات محملة بالجمال الحزين الملحاح المبهج المبكي ستولد - وسيكون هذا كله جمالا في جمال - ان كل شيء جميل تحت السماوات ايها الصديق ولعلي مخطىء ولكن: قليل من الخطأ لا بد منه دائما.خرج رسمي شبه مدحور من منزلي - منزلي الجليل له جنينة وله فرندات ايضا - اذ خرج رسمي في عتمة المساء المتكاثفة - انت تعرف تقطيبة رسمي ذات الحركة المألوفة المدحورة وخرج الجميع وعدت وقلت لنفسي: اريد ان اكتب.اقول: بالطبع احب رسمي كثيرا ، لا استطيع ان لا اكون الا محبا له وانني لا سر لك ما لا يجرح قلبه العاني المسكين - احبه واشعر ان جزءا من تكويني الخاص المحبوب قد لصق به - ربما الى الابد. لا خير في قبلة طاهرة كهذه اليس كذلك؟لا اقصد شيئا والله ولكنني اغفلت ان اقول بان مسكني الجديد هو في عمان في جبل اللويبدة وله جنينة كما قلنا.قحطان كان معي هذا الصباح. لعلي اغضبته اذ ودعني في الظهيرة. هي ذي قصة لعينة لا تنتهي.
اغضابي للناس اعني يا من يعطيني رصيدا مطلقا من الغفران فأشرح له قلبي هدية متواضعة.كانت معه فتاة وكان يود ان يتسلى وبدوري كنت محتاجا للتسلية فلعلي اغضبته ، مجمل الحكاية تحدثت غامزا عن الزواج ملمحا لضرورته فأخذته البنت الملعونة قصة جدية - وقحطان من هو ليتحمل هذه السفالات؟انني لارغب في الانعتاق قليلا من اسار هذه اللحظة الملهوجة لأكتب شيئا مستقرا.اخبار مثلا: رسمي قدم فحص الاذاعة وكذلك انا وكنا من الناجحين - هذا يعني ان نعمل معا حسنا ان زوجتي ترى غير هذا ولا ادري نهائيا ان كنت سأقبل في الجامعة خلال اسبوع لأحظى بعمل.ابو صخر(11)عندي كان امس واول امس. ان سلوكي المرخي دون اكتراث لا يرضيه ـ ان بقاء حبه لي مشروط بأن نبقى بعيدين لان عالم روحي قد تشكل وانتهى ومنذ الازل كما تعلم - انه ليرضيني جدا ان يستلمني كيميائيو الحياة ويصيغوني امرءا رضيا مرضيا عنه فالحق انني سئمت كوني محبوبا لجلسة او جلسات متباعدة. ان توحيدي لا حد له انك واحد من بعض صوى قليلة تلوح في الافق كأنها تومىء لحد ما - وبالطبع فانت تدرك ان هذا هو سر كل الحكاية ولكن بحق السماوات الن تنتهي هذه اللوحة الابدية. اقصد القول لا تنزعج اذ تدرك هذا في لحظة اطراق مطلقة (وكنت دائما على صلة بالحقيقة اياها). فالعلماء الممتازون (تعبيرك) يقولون ان حزن المساء مفهوم كالمعادلات الحبرية. وانت اذ تبكي امام الجمال المطلق - المرأة - اقصد اذ تستشعر البكاء فليست هناك ظلال اضافية حول هذه الحقيقة ايضا نعم ، نعم ، اقول ولكنني احب الحزن النبيل احبه جدا.هذا يثير في ان اقول: بودي لو اهداني زيدان تحياته (اشكر محمد رشيد لتحياته طبعا) ولكن تحيات زيدان لماذا هي ربما؟ الا تراه؟ ان زيدان لواحد من افضل خلق الله الماضين والمستقبليين.فعلى درب رسالتك الطويلة هذه اضعت حزني - انني اتماثل للتعادل - لم اقل شيئا عن ليدا، كتبت لها رسالة تافهة؟ هو كذلك لا تأسف كثيرا حول هذا الموضوع. فانا ننتظرك مشوقين - واليوم قبل رسالتك كنا نعد اياما ونتساءل: متى يعود صادق وكما نقول لقد شاقنا صادق وشقناه - كنا نقول.عمْ ظهرا ايها الصديق.. انه اليوم التالي وفي الظهيرة تاريخ 11 الجاري بعد كل ما اسلفناه من قول نعتقد ان ما قلناه هو حق ولا يتلبسنا ايما ارتياب حوله.
ان ظهيرتنا هذه هي حق ايضا وامامنا 25 سنة قادمة وربما تريد في كل واحدة منها 360 ظهيرة ذات خصوصية ولو لم تكن مميزة جميعها.رأيت قحطان صباح اليوم وكان يفكر انه عليه تحديد هدف ما خاص بحياته ونصحته بالدراسة الجامعية. كان عليّ بعد ذلك ان اتركه بحثا عن نجار ليصلح ما فسد من اثاث البيت بسبب الرحيل.واذ اسر اليك انني اضعت تعاطفي بسبب البحث عن النجار فغفلت عن قحطان الحق ان انسانا بالغا راشدا مثلك ، لا يقيم كبير وزن لهذه الامور والامور الكثيرة الاخرى المماثلة.ايها الصديق: انني انصح قلبك الطاعن في السن بمزيد من اللااكتراث وفي نفس الوقت بمزيد من الدراسة (12) انصحك وليقبل الحب نفسه خديك.والله الموفق
الرسالة السابعة
"هل نملك خلاصاً روحياً مشتركاً؟ هل نملك ان نعمل معاً شيئاً من جزيرة السعادة؟"
اخي الحبيب (13)
23 ـ 12 عمان
وجدت بطاقتك على مكتبي. كنت عائدا من القاهرة. استمر واثقاً من ان بطاقاتك وكلماتك لها دائما اثر عميق جداً في نفسي.. ومنذ فترة طويلة وانا اخشى انك قد تسيء فهم صمتي وربما مرة اخرى يخطر ببالك شيء مثل (وتعلم انك لم ترحمني قط..) تلك الجملة التي احزنتني وتظل تفعل. اريد ان اقول فقط انني متعب ، انني مفترش ومن الصعب عليّ حصر القضايا والمشكلات التي تتعاور قلبي هكذا. ان غيابك بعض من الاسف الثقيل الذي يستقر في روحي ، وانني كما تعلم مفرد تماما - اعني روحي..في القاهرة التقيت بمي طبعاً ، بالاطفال الاعزاء طبعاً وبصديقي فؤاد التكرلي وتعرفت الى عدد من الادباء ، وعدت منذ اربعة ايام للاسف فقد مرضت آخر يومين وما زلت نهب الانفلونزا..رسمي هنا. لقد آذى روحي جيدا وبتخطيط. رأيته ثلاث مرات وكنت اريد ان يؤذيني ففعل ثم انقطع عني. اننا ضحيتان بائستان لقوى غامضة رهيبة واشعر الآن انني لا احبه ، ولا احب نفسي بشكل كاف ولو كنت انت هنا فانك الوحيد الذي يمكنه ان يقيم لنفسي شيئاً من العزاء الضروري.ارجو ان تشكر عني الاخت نوال (14) لتحياتها وارجو ان تبلغها احترامي ، وبالنسبة لك فلا تسىء قط اي صمت آخر قد يبعدني عنك. اذا كنت مرتاحاً فاكتب لي. ان ذلك أمر حسن.
اخي الحبيب
مؤكد ان صمتي لا يغتفر وكذلك صمتك والآخرين..والمشكلة ايها الاخ ـ ولا بد انك تعرف ـ ان المرء بات يخجل من الشكاة حتى للصديق الذي يعرف ان هناك شكاة ومرة جداً.والمشكلة الاخرى انني وانت ورسمي نعرف اشواقنا المشتركة ونعرف التيه وانا اعتقد انك تعرف سلفا كل ما يمكن ان ازجي من مرارة وتوحد.. الخ ففيم اذن؟هل نملك خلاصاً روحياً مشتركاً؟ هل نملك ان نعمل معاً شيئاً من جزيرة السعادة؟ هذا فقط هو التساؤل المهم ومطلوب الاجابة عليه ـ لأن العمر بدأ بالاختفاء.. ام ان هذا الكلام يبدو عاجزاً ومضحكاً لرجال جاوزوا الثلاثين او يكادون.الانسجام مع الحياة اليومية، تلك قصة غير معقولة بالنسبة لي ، اين هو ذلك الزنبرك الفلتان؟ الله وحده يعلم.. ولكن ما الذي يمكن عمله؟ هل تعلم؟ مزرعة مشتركة، ما رأيك؟؟ بقالية؟؟ فندق؟ صياغة؟ وطبعاً هناك المشروع ذو الجلال المضحك اعني العبور الى مملكة الموت الاخرى - جزيرة سانت باول الاخرى؟ ها؟ اين هو صديقي رسمي واين انت؟ كيف هو محمد هل يعمل معنا في المزرعة او الفندق او الخ...طبعاً هناك اخبار عتبة (15) ورواية صغيرة كتبتها واخرى اكتبها وانقطعت عنه ، وعيني المريضة اشرت لمحمد عنها ، اكتب لك الآن مغمضاً العين اليمنى ، انها مسائل عجيبة لا علاقة له بالموضوع - الذي هو المزرعة او الفندق او الخ..شجعني بالكتابة مزيداً ، واكمل نقص هذه الرسالة مما تعرفه في قلبك عني وفي ذهنك الحبيب طبعا.
الله يحفظنا جميعاً ويوفقنا
الرسالة الثامنة
صادق الحبيب (16)
اذا استمريت امزق كل ما اكتب اليك فان قطيعة غريبة ستمد ظلها فوق كلينا. هذا ما يملؤني تصوره اشمئزازا.مرتين. رسالتين طويلتين ثم امزق..ما هو كائن يجب ان يكتب بطريقة ما تعيد حالته في ذهن صديقك الذي سيقرأ كما انه شاهد على ما هو كائن.وصديق ابن عبدالحق شكا من ان «اين دمك يا تيسير» والحق ان تيسير لن يستطيع ان يجعلك تتنفس نكهة دمه ربما.. ربما.. هو لا يدري."الفو سافوا" (17) ذلك خير ما جاء في رسالتك والله هذا رائع رائع بحيث لا يصدق. شيء من هذا القبيل دائما. واللذيذ ان لا احد يعرف لماذا في قلب سوزان بكاء فهي كما ترى سويسرية نشيطة الملامح وشاعرة وتخرج في الامسيات مع boy friendوتحتسون من البيرا ما قدر الله.ومع ذلك ، ذلك كله في قلبها بكاء يا حرام.الحكاية طبعا ليست سوزان ، فهي تبقى مجهولة بالنسبة لي اولا واخرا ولكن قلبها هذه القطعة المدللة من اللحم المبلل بالدم فيه بكاء. المهم قلب فيه بكاء وعليه ان يضحك «الفو سافوا».. وفي المآل لتذهب سوزان ان ارادت الى الجحيم لكن تاركة - هذا القلب الصغير الشجي.. يا مغرورا - .والحق انني احببت «داريل» اكثر مما استطعت ان احب دزينة من عشيرتي وذوي طيلة عمري ، والحق ان في قلبه نشيجا اكثر اخلاصا مما حملت قطعة اللحم المدللة الخاصة بالانسة سوزان.. وشكرا لقصيدة «المدينة» الرائعة بالانجليزية اكثر منها بالعربية او هكذا احسست.
Ah dont you...?
Yes I do, I swear I do
ولكن.. «الفو سافوا» قالت الانسة suzan واما ما كان من السيد والسيدة
ماكبث فانت تعرفه.
What is done is done
What is done is done can not be undone
كل هذا يعني نفس الشيء. يعني ان في الخاطر الما ما لسبب ما او لغير ما سبب ما.. هكذا المهم هو الاسى او الشيء الذي من هذا القبيل وليس شرطا ان يقترن باليأس او السخط فهو قد يمطر مع الصباح المولود حديثا وقد ينغل في عظم البهجة اللاكاملة وقد يداهم في اية لحظة وقد يغيب اسبوعا او شهرا او عاما ولكن يعود وجهه مشفقا وممروضا غير انه رقيق صاف كأنه عصير اله مقطر..
No other please always this
هذه حقيقة الاسى الذي حاولنا دائما الامساك بعرفه لنذبحه في عيد الصغار الممجدة جباههم حاملي امانة التاريخ ، ابنائنا. هو عصفور صغير ليس مهما بذاته بل بجنسه مهما ذبحته فهو عائد باذن سلالة خالدة من دمه عائد بنفس الوجه المشفق الرائق الصافي الحنون والملوح..لا تظن ان الحكاية بعمومها انني مسحوب خلف داريل في كل هذا.. لا... هذا دم يا عزيزي دعني فقط اسألك: هل انت آسف لهذه الحكاية؟بالنسبة لي: انا فقط احيانا اسف من اجلها.. اما عموما فاتقبل بنوع من الرضى كل ما كان وسيستمر.. بحيث تصبح «الفو سافوا» بحاجة الى تعديل ما... لانه: صحيح ان في قلبك بكاء.. ولكنه بكاء بائت منذ امس امس ، فهو ليس تماما كالبكاء ، وانما شيء من هذا القبيل.. تصبح الاغنية "تعلم ان تضحك وفي قلبك
شيء كأنه البكاء..".
اليك احدث قصائدي..
"من؟"
كان المساء
نهنهة طرية تنسل في مجاهل السماء
وواحدا مثلت فوقه ضجعة الخليج
للحظة منسية بغير ما يقين
تراشقت في خاطري اصداء
كأنما نشيج
انا الحزين ام هي الاشياء؟
خطوة خطوتان
اسفت ان وطئت فوقه مهجة السكينة
اعود والزمان للوراء
من قبل الف دورة وقفت والمساء
نهنهة طرية تنسل في مجاهل السماء
عيناي اين كانتا؟
تناءتا
تناءتا
كنقطتين في الظلام غاصتا
لكنما الفضاء
ينصب - كي يكون - عبر مقلتين
قد كانتا
ما عادتا
ومن بعيد ارجع الظلام نقطتين
ما كانتا
من الذي يرى
ترى انا
ام تلكم الاشياء (18)
هوامش الرسائل
(1) من الارصاد الجوية في عمان بعد ان سافر صادق الى الكويت.
(2) شكرا بالفرنسية.
(3) شقيق تيسير سبول.
(4) على وزن اغنية ام كلثوم «عزت جمالك فين من غير دليل يهواك».
(5) كتبت هذه الرسالة حوالي 1964 .
(6) كتبت هذه الرسالة حوالي 1968 لصادق في الكويت.
(7) كتبت حوالي 1968 لصادق في الكويت.
(8) المرحوم المحامي صليبا الصناع.
(9) كتبت في صيف 1962
(10) المحامي جودت شقيق تيسير.
(11) المرحوم شوكت سبول من كتب له قصيدته «النسر الغائب» عندما كان معتقلا
في السجن 10 سنوات مع الضباط الاحرار.
(12) كان صادق وقتها يدرس في جامعة دمشق.
(13) كتبت اول السبعين.
(14) زوجة صادق عبدالحق.
(15) ابن تيسير.
(16) كان صادق وقتها في لندن بشتاء عام ,1960
(17) مطلع اغنية فرنسية معروفة لشارلز زنافور كلماتها تقول: «عليك ان
تتعلم كيف تتغاضى عن البكاء والالم وتستمر.. الخ».
(18) من قصيدة تيسير سبول «حلولية» المنشورة في ديوانه «احزان صحراوية».
ملاحظتان : هذه الرسائل لتيسير سبول من الاردن الى صادق عبدالحق في اسفاره.
* هوامش هذه الرسائل تمت اثناء جلوسي الذي زاد عن عام مع صادق عبدالحق.
ـــــــــــ 3 ــــــــــــــــــ
القاصة مي اليتيم زوجة الراحل تيسير سبول :
معظم الذين دأبوا في الكتابة عن زوجي استعاروا اسمه مشجبا لتعليق صورهم الشخصية
د. مي اليتيم: زوجة الاديب تيسير السبول ولدت في الكويت عام 1936 ، طبيبة اطفال ،تعرفت على السبول في الجامعة السورية ، اذ كانت تدرس الطب وهو يدرس الحقوق وكان ذلك في نهاية عام 1961 ، عندما نشرت قصة قصيرة في مجلة الاداب البيروتية ، عنوانها «الوان» لفتت انظاره فسعى للتعرف عليها ، وتزوجها عام 1963 .
الدكتورة مي قاصة صدر لها «ملصقات على ابواب دمشق» والدكتورة وهي تمزج بين جدلية الحضور والغياب ، الفرح والحزن بمجموعتها فإنها تقدم لغتها مشرعة ابدا بالضوء ، وان كان الحوار مع القاصة حول انتحار زوجها الشاعر تيسير سبول لـ" نزوى " فهو ايضا امتد ليكون معها كقاصة ايضا:
* من هي مي اليتيم؟
ـ امرأة عربية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان ، من اباء وكبرياء وتفاخر وانتماء، بالاضافة الى واقع لمسته فأبي بحريني وامي سورية وزوجي اردني ومسقط رأسي الكويت ، ولي علاقات قرابة وصداقة في عدد كبير من البلاد العربية كما ان دراستي الطب البشري كانت في دمشق واختصاصي كطبيبة اطفال كان في القاهرة.
* ماذا عن الزواج اذن؟
- لقاء في جامعة دمشق عبر المهرجانات والندوات المتعددة مع وجود اهتمامات كثيرة مشتركة بيننا منها هاجس الكتابة والشعر وهاجس القومية العربية. كان لا بد لذواتنا المضمرة ان تتحد بزواج رغم البعد الظاهري بين طالبة طب وطالب حقوق. وانسانة لا تعرف غير المدنية مع انسان ريفي يسكن حدود الصحراء. ورغم كل اشارات التعجب. كانت روحانا في حالة لقاء تفاهم واعجاب ووعي بقيمة واهمية الآخر.
* الرصاصة التي اختارها تيسير لجسده في 15 ـ 11 ـ 1973 دوّت عاليا ، برأيك من استيقظ على صوتها؟
ـ لا احد ، نحن بحاجة الى اكبر من رصاصة لايقاظ الموتى.
* ما السبب في ان ما كتب عن اسباب انتحار تيسير السبول اكثر مما كتب من نقد او تحليل لنتاجاته الادبية؟
ـ يقول البيرو كامو في احد كتبه ما معناه «حين يموت انسان ما تعر فه يتحول اليه انتباهنا بعد ان كنا في غفلة عنه». وفي حالة تيسير تبرع الكثيرون لابداء الاسباب ونصبوا انفسهم قضاة في محكمة غاب فيها المتهم. فكان رأيا وقضية من جانب واحد.
* نتاجه غير المطبوع ماذا عنه؟
- قليل هو نتاجه غير المطبوع مما توفر لدي ، بضع قصائد من مرحلة الدراسة الثانوية. ورواية لدي بدايتها بعنوان «الشيخ عصري».
* ماذا تقولين عن العلاقة بينك وبينه الآن؟
-علاقة حب واحترام. ورضى بالاختيار الصعب الذي وضع نفسه فيه.
* لماذا لم يتحول بيت تيسير السبول في ماركا الى متحف الى الآن؟
- وأنا أسأل بدوري لماذا المتحف؟ هل اوفينا تيسير حقه من الدراسة الجادة المتأنية وغير المسبوقة بأفكار مسبقة ومشاعر خصوصية حتى نفكر بطرق اخرى لتكريمه؟ هل كرمنا تيسير حقا وأوفيناه حقه؟ بل اني اقول اكثر من هذا لقد اهمل تيسير اهمالا متعمدا. لقد طلب مني وبإلحاح شديد اعادة طبع اعمال تيسير الكاملة وحين طبعناها منذ ما يقرب من السنة وبأعداد متواضعة «1000» نسخة فقط ، ومع جود الكم الكبير من الجامعات الحكومية والخاصة والمعاهد والدارسين للادب والمهتمين به لم يتجاوز عدد ما بيع من النسخ ربع الكمية المطبوعة ، فهل نحن بحاجة الى المتحف حقا؟
* ماذا عن الصدمة الاولى لانتحاره؟
- صدمة موت الحبيب لا يعبر عنها بالكلمات ، ولكن نتقبل الموت بالتدريج على انه القدر. وتبقى النفس حاملة لجراحها وأشجانها حتى النهاية.
* 26 عاما مرت على رحيل تيسير السبول.. هل رحل حقا؟
- ما دام احدنا حيا فلن يغيب الآخر في خضم الكون مهما امتدت السنين.
*لماذا انتحر تيسير السبول برأيك؟
- هل نسأل النجوم لماذا انطفأت؟ انها تمضي ويبقى نورها ينير درب مجرتنا ملايين السنين الشمسية؟
* خصصت جائزة ادبية تحمل اسم «تيسير السبول» للادب الجديد فهل هي كافية
لترسيخه في اذهاننا؟
- انا لا احمل الجوائز على محمل الجد عموما ، فهناك كثير من اللاموضوعية في التعامل مع النتاج الفني بكل اشكاله ، تحكمها الظروف والشللية ، فهي اشبه بلعبة الكراسي الموسيقية.
* مسرحية تيسير السبول الوحيدة والتي كتبها فور عودته من زيارة لفلسطين
عام 1972 ، ماذا عنها؟ ولماذا لم تر النور الى الآن؟
- مسرحية تيسير الوحيدة التي كتبها قبل سفره للأرض المحتلة «فلسطين» كانت عن «ابي ذر الغفاري» ولم يكن راضيا عنها ولذا مزقها واعدا بكتابتها مرة اخرى ولم يفعل.
* الرصاصة التي اختارها تيسير كيف تصنفيها؟
- رصاصة عمياء غادرة.
*ماذا تقولين عن الفتاة التي يكثر النقاد ذكرها وانه كان يحبها وهي تضطهده ومتعالية عليه؟
- حب مراهقة وانطفأ. حب يعتري كل انسان في شبابه الاول.
* ماذا عن اصدقاء تيسير السبول وكثيرون هم الذين يكتبون على انهم اصدقاؤه؟
- انا نفسي اعيد السؤال.. اين هم اصدقاء تيسير السبول؟ كان تيسير يحب اصدقاءه باخلاص ويتحمس لهم اما اصدقاؤه فقد اودعوه النسيان. اما الذين دأبوا في الكتابة عنه فمعظمهم استعاروا اسمه مشجبا لتعليق صورهم الشخصية عليه.
* بعد مجموعتك «ملصقات على ابواب دمشق» ماذا عن الطموح الذي شكلته القصة لديك؟
- اولا وقبل شيء ، انا لا اعتبر نفسي قاصة وانما انا هاوية للادب والفن وكل ما يجمل الحياة فيجعلها مستساغة ومقبولة ، لي تجارب ومحاولات قد تكون ذات قيمة تعبر عما يختلج في ضميري بين حين وآخر.
* مناخات «الاسرة» كانت بينه في المعالجة في مجموعتك فماذا عنها؟
- القصة اشبه بومضات سريعة بعين الكاميرا ، رؤية لموقف ، او حدث ما ، او مجرد فنتازيا جمالية ذات نكهة حداثية خيالية ، المهم ان يصب في بوتقة الادب الخالد، الاسرة هي البداية والنهاية في حياتي ، فمنذ وفاة «تيسير سبول» كرست نفسي لاولادي فأنا الام والصديقة والسند.اما مجموعة «ملصقات على ابواب دمشق» فهناك الى جانب الاسرة المناخ العام الاجتماعي والنفسي الانساني في عالم سريع التغيير.. لا يقبل المهادنة.
* اللغة الشعرية في المجموعة ، ماذا تقولين عنها؟
- الشعر الحر البداية ، فقد بدأت بكتابة الشعر الحر منذ اولى سنواتي الجامعية ونشرتها بالصحف اليومية في دمشق والحياة بلا شعر وموسيقى هي حياة بلا روح.
* اعلم انك تكتبين «المسرحية» فأين أخذتك المسرحية؟
- المسرح اهم الفنون وأقدمها ، وهو يجمع كل الفنون معا يصهرها في بوتقة واحدة ويقدمها إلينا ، لي تجارب غير مكتملة.. او بالاحرى لست راضية عنها.
* احلامك الثقافية؟
- احلم بكتابة رواية تاريخية ، تلح عليّ بين الحين والآخر ، ولكني ما ان ابدأ حتى أفقد الحماس لسبب او لآخر.
* ماذا تستطيعين القول عن المشهد الثقافي الاردني الآن؟
- لست على اطلاع واسع في هذا المجال حتى يكون لي رأي واضح ، ولكن الرواية الاردنية بشكل خاص قد أثبتت وجودها على اكثر من صعيد..
* ماذا عن النقد الذي تناول مجموعتك «ملصقات على ابواب دمشق»؟
- لم أقرأ اي نقد يتعلق بمجموعتي.
* ماذا عن ملكة الخيال معك؟
- الخيال جزء من الوجود ، فلا معنى لوجود صامت جامد ، لا يحركه الخيال ويجمله.
ــــــــــــــ 4 ـــــــــــــ
رسالتان من صادق عبدالحق
الرسالة الاولى التي تم استكتاب صادق عبد الحق لكتابتها ليقول مشاعره عن يوم انتحار صديقه الأعز تيسير سبول في :
15 ـ 11 ـ 1975
اخي الحبيب
ها نحنُ امام حالة جديدة تختلف عن كل ما اعتدنا على الحديث عنه في رسائلنا السابقة:حالة من تلك التي صادقنا فيها «كافكا» و«كولن ولسن» و«ولز» وبقية رفاقك الممتازين... ها نحن مع فعل دموي «انجزته حقا يا للدهشة» ، وبرم بالحياة حتى الموت.. مع موت فعلي. حضر مصرع «كامو» كاللطمة ، ما عاد قراءات وتحليلا، جن الخيال فصار واقعا جسدا مدمّى ، جنت فكرة الموت فها انك مت فعلا ها انت ميت ، غائب.. ابدا ابدا.. ايها الصديق الغائب ابدا...هي المرة الاولى التي اكتب اليك منذ رحيلك ، وها اني اجد صعوبة في التوجه اليك ولكني اعلم انك هناك تسمعني.. تنظر الي... تدركني على نحو ما اخر ، واعلم انك لست عاتبا عتبك ايام زمان واكره ان تكون معرضا عني...بعد سنتين ، ها انت ذو جسد تذوبه الرمال - وياللحسرة - تطلع من وراء حضورنا المادي الاجوف فأكتب اليك.. ولا يقع في يقيني انك لا تعني ما اكتب بل انت تعي ، وها انت تبتسم كعادتك: مغمض العينين في الارجح..ولا بد ان نتناقش يوما في الامر.. ليس بالطريقة الدنيوية بالطبع لكنه سيكون نقاشا على نحو ما... ومن ذلك النقاش بيننا الذي لا مثيل له ابدا.لا اسألك لم فعلت ذلك؟ الا ان اندهاشاتي الدائمة «على رأيك» تجعل لي الحق في معرفة «مشاريعك» قبل الاقدام عليها... الم يكن تعاهدنا العقلي قائما دائما؟على كل حال... اخباري ، وتعلم من قديم كم احب الحديث عن نفسي «ربما الجميع كذلك» مرمي امام عائلة: طفلانہ ايجوز الانشغال عنهما بالحلم او بالشعر؟ لا يجوز يا سيدي.. هما قطرتان من براءة.. نغمان من ذرى همس الوجود... شيئان لا بد انك تدرك كم احبهما.. وكم تقع نفسي مرتعدة خوفا امام عالمهما الصامت الابيض مرتعدة باللايقين الاسود.. قبل ان اتوجه اليك بالكتابة ، الآن كانا ينامان.. ذلك النوم العميق المليء بالسلام: فكرت في الامر.. كم ان هذا السلام .. هذا الصمت مليء مليء مليء بالاحتمالات الشقاء، مليء ليس بالاحتمالات فقط ، بل وباليقين ايضا: بيقين ان ثوانيهما الطاهرة البيضاء تضيع كحبات الماء الصافي من ثقب الزمن الخفي.. وانت ايها الصديق.. ماذا بوسعك ان تفعل؟ تمسك بيدك الماء؟ اتحدث اليك عن ذلك لانه مسألتي الوحيدة هذه الايام ولا شيء.. لا شيء اخر ابدا.
محمد صديقنا العزيز الممتاز مرسوم على لوحة الزمن بجانب جدول صافي هوذا لذلك فان دماءه تتوهج بالصحو ، وتنساب مياه الجدول حوله باعتدال.. وخبر عن جودت. اتصوره مكلوم الخيال شبيه بجراحي انا او ربما على نحو اسوأ وليس غير اولئك هنا فيما احسب من تهتم بأخباره.. هناك هذا البلد اللعين وهذه الغربة الشمطاء ، وذكرى الاهل ووالدي المسكين ووالدتي الحبيبة.لم ار طفليك ، لم ارهما،، وتعلم اني افتقر للوسائل المادية العملية للوصول اليهما.. الوسائل بالمعنى الواسع... هل سأظل اشرح لك مقاصدي من عباراتي حتى بعد الرحيل؟ «يا عجبا.. انك لحاضر عندي الان كحضور يدي هاتين». ذهبت مع صالح اليهما حين كانا قد تركا عمان للتو ، ثم ان اهداب الزمن اخذت تنسدل بيني وبينهما... انا المقهور بالزمن قهرا. لو انهما طفلاي انا.. وكنت انا الذي رحل وانت ا لذي بقيت بعدي؟؟؟ اعلم انك كنت جعلت منهما بعضين مقدسين عندك.. لما اطبق لك هدب... لما نسيت قط.. ايها الرصاصة المتوهجة
دائما.بعد رحيلك انفرط الاصدقاء الذين نعرفهم معا بأصدقاء تيسير ، تبعثروا عن هذه الصفة تدريجيا ووجدتهم يذهبون لاعمالهم بهمة وحيادية تأمين.. انك تبتسم ـ ولا شك - ولكني طيلة الوقت كنت اراهم كذلك ولم يخطر ببالي ان يتغيروا بسبب رحيلك.لن اسألك لم فعلت ذلك ، فهو سؤال غبي ، الا اني ، المندهش دائما على رأيك ، احس منك خيانة «هل تضحك؟» انك لم تخبرني مسبقا. ، ها نحن ، انا ومحمد هنا ، وجودت ومي هناك ، ياللبعد القاسي ، نلم كلماتك ونقرؤها وترددها الشفاه كالتسبيح ، لا نطلب منك تصحيح الاخطاء المطبعية: كلماتك التي اصبح جسدها مكفنا بظهيرة 15 ـ 11 ـ 1973 لا يمكن ان تجاورها في ذلك الغلاف القاهر اية كلمات اخرى لك.نتوجه اليك والى حضرة الاب الاعلى المحتفظ بروحك الثاقبة ان تغفر سعينا القصير، وان تبارك «وانت المعطاء» ارواح اصدقائك العديدين المعفرين بعدك: بغبار الدنيا... عليك السلام
اخوك صادق
15 ـ 11 ـ 1973
الرسالة الثانية التي تم اسكتاب صادق في ذكرى تيسير سبول هذا العام لكتابتها
أخي الحبيب
رحل شوكت ، رحل سليمان عرار ، شاخ جودت تماما وظل رسمي وعدي وراكان وفايز والجمل وزيدان يسعون في الدنيا.. هل اقول فسادا؟ ام عبثا سيزيفيا؟، كلاهما يصح. رأيت قبل ايام فايز محمود ، الذي اظنه ولد شيخا فكيف تحسبه صار اليوم؟، شفيق «حارق اعشاب اللغة في رأيك» تكرس خوريا في ضواحي بوسطن او غيرها ، وغاب في ابدية دنيوية لا نسمع منه ولا نراه. وعمن تراك تسأل ايضا؟ عن المرأة الوردة؟ «او الامة السوداء كما سميتها سامحك الله» رحلت.لا ارى عتبة وصبا، رأيت مي من سنتين ، ولا زالت غير راضية عنا "انا وبعض اصدقاء تيسير".. صالح يُرى احيانا بلا مشكلة ، الكيالي رحل مذعورا منذ سنوات: صارت عائلته تخشى عليه في اخر ايامه من الخروج وحده.. شكا لي ولرسمي ولم نكن نستطيع عمل شيء.. قحطان لا زال غائبا وأسأل عنه الطير الطاير بلا نتيجة.. وهلال بطرس؟ ما حكاية هلال؟ اين هو؟ نعم أسألك انت ، فأنا لم ار هلالا منذ اربعين عاما نعم قبل رحيلي للكويت ، ولا اظنه جاء اليك بعد.عرفت - ولا شك - ان صديقك خليل حاوي رحل.. فعل ما فعلت تماما بعد دخول اسرائيل الى لبنان.. نعم هي دخلت بيروت ، ولو انك بقيت الى اليوم لحسبت ان ما كان غاظك على الكيلو والخيمة «101» ، وان كان اساس كل ما تلا - لم يكن ببشاعة ما جرى ويجري في بغداد الجريحة.. لقد سقطت بغداد.. نعم سقطت تحت حكم ولد عايق كذاب ذو شاليش اسود بل وصار يوم سقوطها عيدا في العراق، ورحل او غاب صدام.
هاني الراهب رحل رحيلا «نظاميا» وحيدر لوحق من الشعب «وليس فقط من الحكومة» ولكنه صمد.وماذا اخبرك ايضا؟ لم ازر قبرك في ام الحيران منذ دفن ابو صخر وقرأت لك الفاتحة ، وتحسست الشاهد واردتك ان تسمعني.الطفيلة صارت محافظة، ماذا يعني ذلك؟ يعني ان «اللعبان» الذي احببت صار قريبا قائمقامية، احمد القرعان لم اره منذ زمان بعيد ، ورحل ابو عودة ، وتحاوطت ليث العيون والاذان حتى صحت او كاد ، وسليمان القوابعة تكرس روائيا حقيقيا ثم ان اسرابا «كالذر» تسلقت اعمدة الصحف ، وملأت زوايا الاعلام والاذاعة والمهرجانات فعاثت خرابا ، وقدمت اسراب اخرى من القانونجيين توزعت في ردهات المحاكم ومنصات التشريع والبرلمان ومنابر الفتاوى وتنادى الناس: انج سعد فقد هلك سعيد.. حتى ان صديقتك الجميلة المثقفة توجان شكت امرها اخر الامر الى الحكومة من الحكومة فبهدلوها وحرموها من السعي الى البرلمان،
اخي الحبيب
بعدك جاءني كثيرون ممن اذهلتهم قوة احتجاجك ورفضك ، ويستعلمون عنك: عن كل صغيرة وكبيرة خبرناها معك ، كيف كنت تتصرف؟ تأكل تشرب ، تحب... جاء سليمان الازرعي من الحصن حاملا زوادته «على طريقة الاصمعي» في جمع الاخبار» وكتب عنك اكثر من كتاب.. وكذلك نادي الطفيلة ومؤسسة شومان ، ورابطة الكتاب وغيرهم.. حتى جاءني قبل حين قريب شاب صحفي وشاعر يطلب نشر رسائلك اليّ.. قرأتها ورأيت انك قد لا تمانع في نشرها ، واذ انا «مهدود الحيل» كما تعلم ، وجدت ان ليس افضل لذكراك من تسليمها لشاعر صحفي شاب ومتحمس وله من اسمك نصيب ليقوم بنشرها ، وبالمناسبة او بغيرها ، فلم ا درك كما كانت "انت منذ اليوم" بهذا الجمال والابداع، بعد قراءاتي التالية لرحيلك: اني اراها اعجازا يستوحي الاعجاز الخلاق،لا اعرف ، على وجه التحديد ماذا يفيد نشر هذه الرسائل ، لكني اراها على كل حال شهادة على حين من الدهر التقت فيها روحانا الكارهتان للزيف ثم فرقتهما الى حين زلازل الكون والصراع الانساني.بعد رحيلك رحل او غاب احباء كثيرون ، ورحلت او غابت احلام وآمال جميلة ، ولا ارى الان املا في حارات العالم العربي غير فتية شعثا غبرا يقولون لا اله الا الله ، وفي نبوءة شبنجلر مما صدقته انت في التصدع الكبير في سد الكذب الامريكي الصهيوني «العالمي حاليا للاسف» وعرابوه الذي يكذبون كما يتنفسون: على الله وعلى الناس بل وعلى حيوانات ونباتات الكون.
اخي تيسير: في تطواف روحك الدائم قد تلتقي طائرنا الجميل «محمد» فقبله وتقبل منه بر ابيه ومحبته ، وليكن الله معك ومعه ومع محبي الحق والجمال.
اخوك
صادق
ـــــــــــ 5 ـــــــــــــــ
رسمي أبو علي: لا ألوم تيسير على انتحاره
وفي حوار خاص لمجلة نزوى قال القاص رسمي أبو علي حول انتحار صديقه الأكثر قرباً تيسير السبول: قد لا تكون المسألة متعلقة بالارادة أو الفلسفة التي يعتنقها الانسان لتقرير فيما اذا كان سيستمر في الحياة أم لا. بقدر أن المسألة متعلقة اساساً بأمر أكثر بساطة وهو الجينات والجهاز العصبي للانسان والتي هي سمات تولد مع الانسان أو تتشكل - وخاصة جهازه العصبي - في السنوات الاولى من العمر.. تيسير السبول واجه مشكلات في حياته وهي مشكلات ربما واجهها الجيل جميعه وخاصة فيما يتعلق بهزيمة 67 وتداعياتها على الصعيد الموضوعي - كما أنه واجه مشكلات شخصية وأهمها مسألة مرض عينيه الذي كان يخشى ان يودي به الى فقدان البصر.ويضيف رسمي أبو علي: هنا نقول بأن هناك من يواجه مشكلات أعمق وأخطر. فنحن نعرف أن هناك من أصيب بالسرطان مثل عدد من الكتاب نذكر منهم سعدالله ونوس والذي كان رد فعلهم هو تحدي المرض والاصرار على العطاء والابداع في ذروة الألم والمعاناة..ويؤكد ما يريد قوله: أن تيسير لم يواجه مشكلات استثنائية بشكل خاص تدعو حتما الى الانتحار بالمقاييس النسبية التي نعرفها.. ولكنه ، مع ذلك ، انتحر ، والسبب في رأيي هو حساسيته البالغة وهشاشة جهازه العصبي التي كانت تجنح الى تضخيم المشكلات بشكل مرضي..ويقارن أبو علي بينه وبين السبول بقوله: بالنسبة لي - فقد سبق أن قلت بأنني لست من النوع الذي يفكر في الانتحار.. ان تكويني النفسي والوجودي والفيزيائي هو مضاد للانتحار الذي لا أعرف ان أمراً مهما كان جديراً ، يدفعنا اليه - أي الانتحار - لكن كل هذه مسائل نسبية - فلا أحس بالمجد والرفعة لأنني لم انتحر ، كما أنني لا ألوم تيسير على انتحاره.. فهذا هو سرّه العظيم والكبير الذي يجب أن نحترمه وأن نكف عن التنبيش في محاولة ايجاد اسباب اضافية لانتحاره.. وخاصة أن بذرة الانتحار كانت موجودة في أعماقه منذ البداية - وقد كتبت مرة أنني سمعته يتحدث عن الانتحار بطلقة مسدس على الصدغ الأيمن عندما تعرفت اليه لاول مرة في عام 1958 في مطار ماركا القديم حيث قام بتعريفنا صادق عبدالحق الذي كان يعمل راصداً جوياً في تلك الفترة.وذهب أبو علي مبرراً انتحار تيسير السبول بقوله: في لحظة معينة فان الحياة تصبح عبئاً ثقيلاً - وهذا أمر اختبره كثيرون - لكن هناك من يحاول تجاوز الامر وهناك من يرى انه بات عاجزاً عن ذلك.. تيسير وصل الى تلك النقطة وقرر ان الانتحار هو أخف وطأة من الاستمرار.. هذا هو مقياسه وهذه هي قيمه الداخلية - وعلينا أن تحترمها تماماً وأن نكف عن تمحيصها أو الحكم عليها الى ما لا نهاية - تيسير لن يكون سعيداً بهذه الحشرية التي لا مبرر لها.وحول تيسير الان والمسكوت عنه في العلاقة فيما بينهما قال رسمي أبو علي: بعد عودتي الى عمان قبل حوالي خمسة عشر عاماً وبعد غياب حوالي عشرين عاماً عنها ، كان تيسير لا يزال حارّاً في داخلي - وقد استيقظ بقوة عندما كنت أسير في الشوارع نفسها التي كنا نسير فيها قبل اكثر من خمسين سنة من الآن ـ وبالفعل كنت أحس انني سأراه أمامي في اية لحظة - كان هذا احساساً قوياً لدرجة أنني لو رأيت تيسير لما اندهشت كثيراً.الآن وبعد ثمانية عشر سنة من عودتي فان احساسي بتيسير قد اختلف وأصبح أكثر شفافية وحناناً - فقد غفرت له بعد أن اندملت بعض الجروح العميقة التي سببها لي في فترة شبابنا الباكر.. لكن ما ساعد على اندمال تلك الجروح انه ظل يعتذر بحرارة لسنوات طويلة واصفاً نفسه بأنه سيء.. ولكنني رغم حبي له لم استطع ان أغفر له الا في السنوات الأخيرة باعتبار أن ما حدث لم يكن أكثر من "طيش شباب" كما كان يحلو له ان يصف العديد من الامور التي لا يمكن هضمها من هذا الصديق أو ذاك...وتلك المرأة التي سببت ذلك الجرح بيني وبينه تلاشت في داخلي منذ زمن بعيد كان كثيراً ما يردد أمامي بأن تلك المرأة سوف تدّمر حياتي رغم أنه تعلق بها لفترة قصيرة على الأقل..هذا هو الجانب المسكوت عنه في علاقتنا والذي أكشفه لأول مرة ولكن لا أنوي ارواء فضول أحد اذا ما سأل عن اسم تلك المرأة او تفاصيل ما حدث.
وينوه رسمي: لقد ظلت هذه «النقطة السوداء» في علاقتنا تنغص عليّ لسنوات طويلة.. غير أنني لم أكره تيسير حقاً وان كنت غاضباً منه ومحتقناً وغير مصدق كيف أن صديقاً مثله يمكن ان ينزلق الى أمر حساس في تلك الليلة الملعونة.. لقد ذهب كل ذلك الآن ولم يعد في قلبي الذي عرف كل شيء.. لم يعد فيه الا الحب والحنان والرحمة لتيسير الذي بدأت أنظر اليه الآن كأنه أخي الأصغر الجدير بالحب والاعجاب والمغفرة..ويختتم مقرراً: لقد سامحته من قلبي منذ سنوات - والآن يرقد نقطة ضوء باهرة في أغر مكان في قلبي - فلترقد روحه المعذبة في سلام.وتالياً نص الرسالة التي وجهها رسمي أبو علي لتيسير سبول:"كل سنة وفي ذكرى رحيلك يتنادى اصدقاؤك لاحياء ذكراك كرائد من رواد الثقافة وكانسان استثنائي المناقب وكأديب طليعي سبق الجميع في اكتشاف تشطيات الواقع العربي الذي رفضته مبكراً ، والذي عرفت انه بات واقعاً مأساوياً لا سبيل الى اصلاحه وخاصة بعد الهزيمة الدولية في عام 67 والتي حطمت احلامك القومية وايمانك الصوفي بالامة العربية.أنا اتحدث عن سبب انتحارك الأعمق.. لكن ، بالطبع لا أسمع لنفسي بتجريدك من انسانيتك ومن دوافعك الشخصية الحميمة التي لا يعرفها سواك مهما اجتهد المجتهدون في محاولة النفاذ الى هذه الاسباب.قيل مثلا انك اصبت بمرض في العينين بات يهددك بعمى محتمل، لن بورخيس اصيب بمرض مماثل ولم يفكر في الانتحار.. وقيل انك عانيت من خيبات عاطفية.. لن من منا لم يعان من خيبات اذن يبقى او تبقى اسباب انتحارك خاصة بك وحدك.. وعلينا الا نحاول ان نحشر انوفنا في قمرك العميق.. احتراماً وحباً.مع ذلك ولانني أعرفك فانني أظن أن السبب الحقيقي هو أنك لم تكن «ابن حياة» لم تستطيع ان تكون ابنا لهذا الواقع العربي الذي كشف عن مدى زيفه وانحطاطه منذ البداية والحق - انك كنت زرقاء اليمامة التي رأت ما لم ير الآخرون.. ادركت ان هذا الواقع سيسير من سيء الى أسوأ وأدركت انك لن تستطيع ان تتحمل كل السفالات التي سيفرزها هذا الواقع ، وخاصة ان لك اعصاباً نارية متقدة وحساسة فريدة تستطيع ان ترى الابتسامة وراء عيون الأرملة ادركت يا صديقي ، ان الواقع سيعطيك أقل من القليل في كل شيء.. وأنت الذي كنت طامحاً الى امة معافاة تتسم بالعظمة ويتسم ابناؤها بالكبرياء والحياة الصحية.كثيرون ايضاً ادركوا هذا الواقع - لكنهم لم يذهبوا الى المدى الذي ذهبت اليه.. لقد غضضنا النظر عن أشياء كثيرة وقمنا بتسويات واحتيالات ورتبنا نوعاً من الفلسفة التي تجعل الحياة ممكنة أنا كنت عنيداً ورفضت أن اسلم بالواقع ، وظللت أحاول وأحاول على مدى الثلاثين السنة الاخيرة ، معتبراً ان الحياة وان كانت فرصة متواضعة اصلاً فيجب ان تستنفد بالكامل ، ولا أزعم انني كنت على صواب فالحصاد لم يكن وفيراً وحجم الا لم كان كبيراً فنحن الان ندفع موتنا ثمناً لحياة «تشبه الموت» وأنا اشير هنا الى ظاهرة جديدة نسميها «الانتفاضة» وهي الثانية التي تجري احداثها في فلسطين الآن .وسأقول لك باختصار ما هي الانتفاضة - اطفال وأولاد وفتيان يلعبون لعبة دموية مع الجنود الصهاينة.. هم في طرف يرشقون الحجارة والجنود متمرسون مدججون بالاسلحة في الطرف الآخر.. وأقول لك يا تيسير ان هؤلاء الاولاد بحجارتهم واندفاعهم الذي لا يمكن استيعابه يخيفون الجنود.. كما هو أن قطيعاً من الخراف يطارد قطيعاً من الذئاب.. ان هؤلاء الاولاد يثيرون الاعجاب. والدهشة ويثيرون هلعنا ايضاً فهم في عمر الورود لا يحسون بأنفسهم ، عشاق مجانين ملك يؤمنون ببساطة أن الحياة اذا لم تكن حياة عز فهي لا تستحق ان تعاش.. انهم الأمل الأخير يا صديقي.. وان كان املاً مراً مخضباً بدمائهم.أنا واثق ان روحك النبيلة معهم ، فهم اخوتك وابناؤك الذين ضربت لهم مبكراً مثلاً في معادلة الكبرياء والموت.. سوى أنهم يوجهون حجارتهم الى العدو وأنت لفرط نيتك وحساسيتك آثرت ان توجه الرصاص الى صدغك