في مقابلتهِ الأخيرةِ معَ وكالةِ أنباءٍ The monitor المتخصصةَ في أخبارِ الشرقِ الأوسطِ قالَ جلالةُ الملكْ عبدِ اللهْ الثاني، إنَ أفضلَ الاتفاقياتِ هيَ التي تجعلُ جميعَ الأطرافِ يغادرونَ طاولةُ المفاوضاتِ وهمْ غير راضينَ تماما عما حققوهُ، مما يعني بكلماتٍ أخرى أنْ يكونَ كلُ طرفِ منْ أطرافِ النزاعِ مستعدا للتنازلِ عنْ أمرِ ما يعنيهُ، مقابلَ تحقيقِ "مكاسبَ" أوْ "انتصاراتٍ" يعتقدُ أنها الأهمُ، على الأقلِ في تلكَ الجولةِ. فلسفةُ الملكِ تلخصُ باختصارِ ثقافةَ التفاوضِ بنسختهِ الكلاسيكيةِ والحديثةِ، المتماهية معَ السياسةِ الخارجيةِ للدولِ، ومتطلباتُ إدارةِ البلدانِ والعلاقاتِ الدوليةِ واعتبارات كثيرة أخرى.
جاءتْ عبارةَ الملكِ التي تحملُ في طياتها - كما أقرأها - تذكيرا مكررا للمجتمعِ الدوليِ بالتزاماتهِ القانونيةِ والشرعيةِ تجاهَ الشعبِ المحتلِ الذي " يفاوضُ " أوْ يتمُ التفاوضُ باسمهِ دونَ أنْ يخرجَ منْ كلِ طاولاتِ المفاوضاتِ بشيءٍ، بصفتهِ الطرفَ صاحبَ الحقِ والذي يغادرُ دائما خالي الوفاضِ. تزامنتْ كلماتِ الملكِ معَ مشاركتي في النسخةِ الثانيةِ منْ زمالةِ صحافةِ الحوارِ الذي ينظمها مركزُ الملكْ عبدِ اللهْ بنْ عبدِ العزيزْ العالميِ للحوارِ بينَ أتباعِ الأديانِ والثقافاتِ، وتّوفقَ بينَ أكثرَ منْ 34 صحافيا وصحافيةً منْ مختلفِ الدولِ العربيةِ منتمينَ لدياناتٍ مختلفةٍ ومذاهبِ عدةٍ.
نسخةُ التدريبِ وجلساتِ العصفِ الذهنيِ هذهِ المرةِ جاءتْ بعنوانِ " دورِ صحافةِ الحوارِ في حلِ النزاعاتِ " وشهدتْ عددا منْ الحواراتِ الشيقةِ والتي تمحورتْ حولَ كيفيةِ تعريفِ النزاعِ. والحقيقةُ ورغمِ اتفاقِ معظمِ الزملاءِ المشاركينَ على مفهومِ النزاعِ كصراعٍ بينَ طرفينِ أوْ أكثرَ على أمرٍ يراهُ كلُ منهما حقِ لهُ، ورغمُ أنَ هذهِ العناصرِ تبدو بديهيةً ومنطقيةً كمفهومٍ مجردٍ لا يشبهُ خصوصيةَ قضايانا الوجوديةِ، للحظة... بدتْ التعريفاتُ لي بعيدةً بعيدةً .
مفهومٌ باردٌ في السياسةِ ولربما يلائم المشتغلينَ في الفضاءِ العامِ إلا أنهُ لا يمكنُ تعميمهُ. . ليسَ في قضيتنا المركزيةِ الأولى، وحينُ استخدمَ الجمعُ هنا فأنا أعنيهُ ليسَ فقطْ لأني افترضَ أنها الأولى لاعتباراتٍ إنسانيةٍ وأخلاقيةٍ وحقوقيةٍ وتاريخيةٍ تستندُ للحقائقِ والوقائعِ، بلْ لاعتبارات المصلحةِ والاستقرارِ السياسيِ والازدهارِ الاقتصاديِ الذي تسعى إليهِ معظم حكوماتُ المنطقةِ، ولوْ على حسابِ الفلسطينيينَ وحقوقهم المؤدى . .
جميعُ التعريفاتِ التي أتى بها الزملاءُ رفقتي ضمنَ ورشةٍ مصغرةٍ تمثلُ العالمَ العربيَ وتهدفُ لفتحِ قنواتِ الاتصالِ الشفافِ والحوارِ بينَ البلدانِ الشقيقةِ لمْ تفلحْ في توصيفِ حالةٍ فريدةٍ منْ الظلمِ وانتزاعِ الحقوقِ يتمُ الإشارةَ إليها كنزاعٍ، رغمَ أنهُ لمْ يتمْ التطرقُ لهذهِ الحالةِ بالتحديدِ.
أعودُ أنا لعمّان وفي جعبتي هذا السؤالِ، الذي عززتهُ عبارةُ الملكِ واختصرتهُ. كيفَ يغدو التفاوضُ مقبولاً حينَ يغادرُ أحدُ الأطرافِ منذُ الأزلِ وفي جعبتهِ وحدهُ لا شيءً!.. وكيفَ استسغنا أنْ نطلقَ على احتلالٍ تشهدُ عليهِ الأشهادُ ، ولمْ يبقَ غيرهُ في العالمِ اسمَ " نزاعٍ "؟، وكيفَ استطاعتْ اللعبةُ الاستعماريةُ الكبيرةُ الممولةُ منْ صهاينةٍ حقيقيينَ ومؤدلجينَ تشويهَ ما يحدثُ على الأرضِ وتأطيرهِ ضمنَ مفرداتِ " نزاعِ أوْ صراعِ " وإخضاعها لشروطِ المجتمعِ الدوليِ المطاطةِ والتي لا تنطبقُ منْ قريبٍ ولا بعيد على حالةِ الشعبِ الفلسطينيِ.
نزاعٌ على مواردَ، على مياهٍ إقليميةٍ، على ترسيمِ حدودِ بينَ دولتينِ ماثلتين ومعترف بهما على الخريطةِ العالميةِ، نزاعٌ على ميراثٍ، على ملكيةِ منزلٍ، قدْ نتفقُ أوْ نختلفَ على هذهِ الأمورِ وكيفَ نسميها، لكنْ كيفَ نسمحُ للآلةِ الاستعماريةِ الصهيونيةِ وأدواتها أنَ تغيرَ المفرداتِ والمفاهيمِ كلها، كلُ يومٍ، في إعلامهمْ، وإعلامنا العربي.
ما يحدثُ في فلسطينَ ليس نزاعا، يمكن حله بتنازل الفلسطينيين عن حقهم، عن أرضهم، ما يحدث في فلسطين هو احتلال ، عملية مؤسسة لأخذ الأرض وسرقة الهوية، احتلالٌ أبتْ السياسةُ والتحالفاتُ الاقتصاديةُ وقيمٌ الفرديةِ الجديدةِ التي عززتها الرأسماليةُ الغربيةُ إلا أنَ تموضعهُ في قالبِ أقلِ وطأةٍ لربما على الضميرِ العربيِ ، الذي لمْ يتبقَ منهُ أصواتٌ كثيرةٌ تذكرُ بأنَ على طاولةِ المفاوضاتِ كلها أنْ تأخذَ بعينِ الاعتبارِ مطالب الطرفينِ لا أنْ تنزعَ منهُ حتى الأسماءِ كما يعرفها ونعرفها جميعا .