حين يوصّف البعض ما نعيشه ونعايشه اليوم من تعاطٍ مع مشروع الدولة في مأسسة حياةٍ حزبية ، بغض النظر عن الدوافع والنوايا والأهداف والوسائل والأدوات ، "بالتجربة الحزبية " فإنه يقع في مغالطة وهرطقة لفظية ينسحب عليها مُرسل الكلام الذي لم يعد له وزن في الحديث عن التخطيط أو الإنجاز أو الولاء الحقيقي أو الإنتماء الحقيقي أو الوطنية الحقيقية ، فصار الكلام مقصوداً لذاته ، والنص الرنان الخاوي من المضمون الفعلي مقصوداً لذاته أيضاً ، وصار الشكل والشكليات هي المعايير في كل تقييم وهي الأساس في التقديم والتأخير ، علماً أن ذلك لا يدل إلا على جهلٍ مطلق في التعاطي مع الواقع والوقائع ، ولا أصدق في البشر من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبير في تقرير ذلك " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .
أظنه من المناسب الحديث عن تجربة حزبية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في الأردن ، وكان لها وعليها ولكنها بالتأكيد تستحق أن تُسمّى بتجربةٍ حزبية ، ولكن ما يجري الآن هو حراكٌ غير متّزن ولا واعٍ في مجمله ، من مجاميع ليست بالكبيرة لا علم لها بالأحزاب وأبعد ما تكون عن الفكر الحزبي فضلاً عن العمل الحزبي ، ولكنهم يعتقدون أن الأحزاب تمراً هم آكلوه ، وليس في حسبانهم أن يواجههم صبرٌ يلعقوه . كلٌّ يتهيأ للقصعة كي ينقض عليها ليخطف خطفته ويحظى بحظوظه حتى لو " خربت مالطا "
كيف لمشروع الحياة الحزبية أن ينجح ، والتحزب يتم الترويج له بحسبة المصالح والفرص للمتحزب لا للوطن ، فلا حساب للفكر والآيدولوجيا في التصنيف والتوليف ، ولا حساب للبرامج والمنهجيات في العمل في تحديد المسارات الحزبية ، والذي لدينا هي واجهات حزبية لا تختلف كثيراً عن سوق الجمعة تتشابه فيه البضاعة ولكن ربما تتفاوت فيه قليلاً الأسعار ، والفارق بين بسطات السوق هو علوّ صوت المنادي وقدرته على إقناع المتسوق وربما خداعه .
من أبجديات العمل الحزبي أن يكون فيه أولاً أعضاءٌ متعاونون منسجمون متشابهون في الفكر والتوجه ، يُغلّبون الجمعي على الفردي ، يتقدّم فيه الواحد على الآخر في الرتبة الحزبية والموقع الحزبي بمقدار العمل والتضحية والفهم والقدرة على الحركة الحزبية الفاعلة بإيجابية لمصلحة الحزب في رؤيته الوطنية . ولكن الواقع المنظور بجلاء الآن أن الأحزاب ينضوي في ردائها المتهالك أعضاءٌ متشاكسون ليس من عضوٍ سَلَمَاً لعضو وكأنهم في حلبة سباق ، كلٌّ ينظر إلى مبتغاه من الكعكة المستهدفة ، فإن أُعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا إذا هم يسخطون . لذا فإن مشروع الأحزاب القائم لا يعني إلا سريعي القطف من ثماره المأمولة وبعض الذين يقبلون بخيار الإنتظار غير الطويل في طابور القطّافين ، وأما الإمتداد الشعبي لمجمل هذه الأحزاب خارج الأطر التنظيمية ، وهو الثقل والوزن الحقيقي لأي حزب فهو صفرٌ مكعّب ، إذ أن فكرة وفلسفة تأسيس الغالبية الساحقة لهذه الأحزاب هي فكرة وفلسفة الجمعية الخيرية الريعية للأعضاء فقط وليتها تشمل كل الأعضاء أو أغلبهم وسيكون ذلك شيطان التفاصيل المنزوي مؤقتاً ولكنه حتماً سيخرج من القمقم وسيبعثر الحصاد وسيبعثر سراب القيعة . ولكن وللإنصاف فإني أعتقد أن فكرة الجمعية الحصرية في نشوء هذه الأحزاب كانت قسرية وليست اختيارية وهي حقيقية وليست انطباعية بالمناسبة ، ومردّ ذلك أن فكرة إنشاء الأحزاب هي شخصانية وموجهة في آن ولم تنشأ من واقع مصلحي عام يجعل الفكرة مقبولة وتحظى بالتأييد والتعاطف والتحالف فيكون هناك متحزبون آمنوا بشدة بالفكرة وتصدّوا للعمل على تقديمها والإقناع بها ويسعون لتبنيها في الحكم والإدارة ، وسندهم زخمٌ شعبي يؤمن بالفكرة ولديه مبرراته وأسبابه في عدم الإنخراط التنظيمي في الأحزاب .
والسؤال المطروح برسم التفكير وليس الإجابة هو كم نسبة التغير في الدوافع الإنتخابية وتحديد الإختيار لدى الناخبين بعد نشوء اللافتات والعناوين الحزبية الجديدة ؟!