ليس تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني شرّا بحتا، وإن يبدو كذلك. صحيحٌ أنه يفتّ في عضد الأمة، ويفتح المجال للسم الصهيوني للتسلل إلى العقل الجمعي العربي بطريقة "شرعية" وقانونية، إلا أنه في المديين المتوسّط والبعيد يمثل ما يشبه "القنبلة الموقوتة" في حضن العدو، فضلا عن أنه يوفّر فرصة ذهبية لإماطة اللثام عن حقيقة النظام العربي الرسمي، ومدى ولوغه في الانغماس في خطّ سيرٍ عمليٍّ مناقضٍ لتاريخ عريض من الخطاب الإعلامي المناهض للصهيونية، الرافض مشروعها في فلسطين، ليأتي ويستدير بانعطافة جذرية جهارا نهارا باتجاه التحالف الفعلي مع العدوان.
تبدو الصورة الإجمالية للحال العربي بالغة القتامة، فهي تشهد حالات مريعةً من الاقتتال الداخلي، وعلى نحوٍ غير مسبوق، وتعيش احترابا بينيّا وتمزّقا في الصف، وفجوات مهولة بين الأغنياء والفقراء، دولا وجماعات وأفرادا، وثوراتها، كما ثرواتها، تُسرق وتُنهَب، ولكن ثمّة جانبا مضيئا وذا دلالة تاريخية له ما بعده، بدأنا نرى ملامحه تتشكّل وبشكل سريع، وهو متعلق بسقوط الأقنعة عن وجوهٍ طال اختباؤها وراء عمليات تجميل، أخفت ملامح بالغة البشاعة، وأظهرت لنا تلك الوجوه الكالحة بصورة جميلة، والجمال منها براء.
إلى سنواتٍ خلت، كان الخطاب العربي الرسمي يدمدم بمقولة "وطنية" ثقيلة، مفادها أن "فلسطين قضية العرب الأولى". وتناسلت من هذه المقولة سلسلة من العبارات المعلّبة التي تؤكّد الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، والانتصار له، وعبّأ الخطباء الفضاء بالكلام الرنان في محافل الدنيا كلها، وسوّدوا ملايين الصفحات بها، وألفت في ذلك الكتب والقصائد والمعلقات، وشدا الشادون وهدرت حناجرهم بالأغاني الحماسية، وسُطّرت في ذلك ملايين البيانات، وعُقدت أيضا آلاف المؤتمرات والقمم، وكلها توعّدت العدو بالثبور وعظائم الأمور، أو على الأقل "أكّدت موقفها الداعم للشعب الفلسطيني، وحقه في إقامة دولته المستقلة ودحر الاحتلال" (بالمناسبة حيثما وردت كلمة أكّدت كان مدلولها عكسيا على أرض الواقع، فضلا عن أن هذا التأكيد بلا رصيد عملي، فهي كلمة جوفاء بلا معنى حقيقي!).
أكثر من ذلك، وتحت بند "مواجهة الخطر الصهيوني" صُرفت المليارات على تسليح الجيوش، ومُنعت لقمة الخبز عن أفواه الجوعى، استعدادا للمعركة الحاسمة مع "العدو" لبناء ما سمّوه "الأمن القومي العربي"، وسُنّت لذلك التشريعات وقوانين الطوارئ والأحكام العرفية. كيف لا، والأمة في حالة حرب، واستنفار دائم، ولهذا لا وقت لترف "الديمقراطية" لا ولا لـ"مسخرة" الانتخابات والعدالة الاجتماعية، وسواها من "حقوق فارغة" ليس وقتها (!)، فالأمة تمرّ في "ظرفٍ دقيق" و"منعطفٍ تاريخي خطير" و"مرحلة حسّاسة" تقتضي عدم الاهتمام بهذه "السفاسف"، وتركيز الجهد للتصدّي لـ"مخطّطات العدو" الهادفة إلى تمزيق الصفّ العربي، والنيْل من "الكرامة الوطنية والقومية!"، إلى آخر هذه المتوالية من الأكاذيب الكبيرة التي قد تكون مرّت على عقول "الجماهير".. فماذا كانت النتيجة؟
تتمدّد إسرائيل وتقوى كل يوم، وفلسطين تذوي، ونكبتها "تعرّبت" وتوالدت، فلم تقتصر على الشعب الفلسطيني، بل أنتج النظام العربي نُسخا أخرى وطبعات مزيدة ومنقّحة من النكبات العربية، فأصبحت، تقريبا، لكل بلد عربي نكبته الخاصة به. وامتدّ الاحتلال الصهيوني لفلسطين إلى احتلالات أخرى ملتبسة، تسلّلت إلى احتلال العقول والإرادات ... وبدا لنا ماذا كان بعضهم يعني حينما يصف نفسه بنظام المقاومة والممانعة مثلا، أو قلعة الصمود والتصدّي!
أما النقطة المضيئة في ذلك فهي سقوط الأقنعة عن الوجوه التي اختبأت وراءها، فلم يعد العدو عدوّا، وأصبحت المقاومة إرهابا بشكل "رسمي"، والجماعات المقاومة تنظيمات إرهابية. وتبيّن لنا جميعا، بعد كل هذا الدجل، أن من احتضن إسرائيل وغذّاها وأمدّها بأسباب القوة هم أنفسهم من كانوا يتوعدونها بالحساب العسير، وقد كانوا يفعلون ذلك سرّا، وإذ بهم اليوم يجاهرون بهذا، وهنا تحديدا بداية البداية، فتلك لحظةٌ تاريخيةٌ فارقة فعلا في تاريخ هذه الأمة، لها ما بعدها فعلا، فقد تبيّن للجميع "الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر"، ولم تعد الأكاذيب القومية والدينية تنطلي على الصغار قبل الكبار. سقطت كل الأقنعة، ووصلنا إلى قاع القاع، ومن هنا تحديدا، تبدأ رحلة الصعود الحقيقية..
وللمسألة وجه أكثر أهمية من كل ما مضى ربما، أن نسغ الحياة لإسرائيل هو شعورها بالخطر، وديمومة وجود عدو يهدّد وجودها، وهو ما يولد شعورا جامعا لفسيفساء التجمّع الصهيوني في فلسطين. وفي حال بدأ هذا التجمّع بالشعور بالأمن، وتحييد تلك الجيوش التي تحيط بها وكانت تشكل خطرا ما عليها، بدأت تستدعي خلافاتها البنيوية الطاحنة التي كانت نائمة وقت الشعور بالخطر. ولعل ما نشهده اليوم من انقسامات وشروخ داخل تجمّع المستوطنين في فلسطين هو الصورة الأكثر وضوحا لما نقول. السلام أخطر على إسرائيل من الحرب، فهي كيانٌ قائم على العدوان. وكلما اكتمل طوق التطبيع، زاد التفاف الحبل على رقبتها. هذه ليست دعوة إلى التطبيع بقدر ما هي قراءة أخرى له، ربما تحتاج لقراءة أخرى أكثر عمقا.
"العربي الجديد"