(لا بل شردت. في الصين اول الغضب)
في هذا البر الشامي (الاردن وفلسطين) على قدر ما تكتشف براءة الناس وصدق الناس وكرم الناس، بقدر ما يختفي عنك كمراقب مكر الناس ودهاء الناس.
بهذا المعنى مرات كثير اخجل من نفسي حين اصف اي صاحب مشروع سياسي او اعلامي بأنه (وحدوي)… ويغدق الناس على هذه الصفة مزايا تصل حد التقديس.. الاصل ان يكون كل الناس وحدويين، والاصل ان النقاط المعتمة في مسيرة علاقة الناس بعضهم ببعض هي الاستثناء، لا ان يبنى عليها لتصير هي القاعدة..
في هذه المهنة الصعبة (الصحافة) قد تكون مثل المرايا التي تهب ممتهنها فرصة ان يرى الفصول عارية ورجال الدولة من غير اغطية والمفكرون اصحاب الوجوه المتعددة تكون بضاعتهم مكشوفة لدى الصحافة حد الاستهزاء… لو انني اردت التمادي في الوصف والتعمق في الاجتهاد، فاستبدل صفة الوحدوي بصفة (الموحد) فانها تنطبق على الذي عايشه جيلنا على ثلاثة اشخاص..
المغفور له سيدنا الحسين رحمه الله كان (الموحد) الاول في دنيا العرب…
كان الكاتب القومي جورج حداد (ابو ادونيس) رحمه الله، يسأل سيدنا على الغداء على طاولة كان لي الشرف ان اكون بجوار الاستاذ (جورج حداد)… ذاك الغداء كان عقب انسحاب العراق من الكويت باسابيع.. سال العم ابو ادونيس (سيدنا يرحمه الله): جلالة الملك ما هو تقدير جلالتكم لحجم الخسارة العراقية في هذه الحرب ؟!
اجاب سيدنا الحسين: والله يا استاذ جورج (خسارة الامة كانت مهولة) لقد خسرنا كل شيء!!
رأيت عيون استاذنا جورج تغرق في الدمع وكاد ان يبكي بكاء واضحا، ظننت انه تأثر من حجم الخسارة!
بعد ان انتقل سيدنا الى طاولة ثانية بادرت جورج: يعني شو متوقع كاين غير هيك؟!
اجاب بحسرة كانت درسا وحكمة: (والله يا احمد ما فوجئت بالنتيجة، الذي ابكاني لغة جلالة ابو عبدالله ما انتبهت عليه قالك خسارتنا كانت مهولة).
هذا اخر ملوك العرب الذين يؤمنون بالعرب..
والموحد الاول في الصحافة كان محمود الكايد ابو عزمي رحمه الله، محمود خالفناه كثيرا في الحياة، لكننا ابدا لم نختلف عليه. كان محمود الكايد اخر السيوف التي تصدت للتسريع في انزلاق المهنة خارج المهنة.. ولما غادرها غادرتنا الصحافة المطبوعة (رسالة ودورا وهوية)…
ابدأ مع محمود الكايد بقصة تنم عن روحه الموحدة الصافية والتي تخلو من ادراج خفية…
في احدى اشهر رمضان المبارك وكان ذلك عام ١٩٨٦م… تلقى ابو العزم كنقيب للصحفيين ورئيس تحرير الصحيفة الاولى في الاردن، دعوة من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني… كانت الصين تشمشم اطراف ثوبها المبلول بدماء الطلبة الذين سحقتهم الدبابات في الساحة الكبرى في بكين وهي ايضا كانت قد باشرت رحلة الانفتاح الضاري على الغرب وهي قد ادانت (الغزو السوفياتي / التعبير امريكي جدا) لـ افغانستان…
في هذه الاجواء حملنا (ابو العزم) في معيته الى الصين في رحلة زار فيها وزرنا معه كل منطقة شرق اسيا، وقاربت الشهر كان يوسف العلان مصور الراي وابن مخيم الوحدات، الذي خصه محمود الكايد برعاية كانت اول الحسد من زملائه.. كان مدلل ابو العزم وكان ابو العزم يستند الى غاطس التعاطف والاعجاب بابن المخيم الذي اضحى مصورا ماهرا!!
في حينه كنت رئيس قسم التحقيقات الصحفية في الرأي، لكن ابو عزمي كان يعتقد ويرى وكما كان يعلن انني ذاهب في النجاح بالمهنة حتى منتهاها… رحمه الله، لم يبخل علي بسفر مهني ولا بسفر تدريبي ولا بسفر للثقافة كما كان يقول
ابو عزمي اهم واخطر ما في شخصيته أنه (مستقلبي مدهش حد الاستنارة) تقدمي رغم ان وعيه تشكل على اطراف الخلايا الستالينية، لكنه تمرد عليهم واعترض على حديدية التفكير والانغلاق
وصلنا الصين في ابهة ضيافة اللجنة المركزية كان معنا مرافق اسمه (بو) يتقن العربية بطريقة فولكلورية لكنه متمكن من معانيها…
ونزلنا بفندق السلام الذي كان في حينه اهم فندق في تلك الديار الباذخة الان بضراوة…
وتحدد موعد (المعلم / ابو عزمي) ونحن في معيته مع كبير السدنة في الحزب، نسيت وظيفته لكنه كان رئيسا من ضمن الرؤساء الموجبين في الادارة العليا.. كان بين الفندق والمكتب عند الساعة الخامسة والنصف عصرا ليس اكثر من خمسة دقائق في السيارة التي تستطيع ان تقيم فيها عرسا لضخامتها واناقتها..
وهذا التوقيت غير موات للاستاذ محمود الكايد لانه اعتاد القيلولة اليومية تمهيدا للسهرة الطويلة في مزرعته التي اطلق عليها الكاتب الاردني الفذ خالد محادين (الكايدية) وصارت لا تعرف إلا بذلك الاسم…
دخلنا لمكتب الرئيس وباشر الحديث مباشرة عن تأييد الصين لقرار ٢٤٢ والسلام العادل، ومر على نحو لا لزوم له (الصيني) شجب الغزو السوفياتي لافغانستان!! واسهب في دعم مشروع السلام بين اليهود والعرب..
اخذ الكلام ابو عزمي ليرد على المعزب وفجأة قال له ايها الرفيق نحن حفظنا اسماء انهركم وانتم تكافحون لطرد المستعمر وتوحيد الصين
وذكر اسم نهر (هامبو) واستأنس المعزب.. وأكمل ابو عزمي رحمه الله (حفظنا مقولة الرفيق ماو الذي صرخ بها "لا نكون رجالا ان لم نبلغ سور الصين العظيم")
وابدى الرئيس الصيني سعادته وفرحته… ثم انتقل ابو العزم للتقريع: ايها الرفيق لا سلام في الشرق الاوسط دون زوال الكيان العنصري واقامة الدولة الفلسطينية الديموقراطية، إن حكامنا واهمون وانتم واهمون تركضون وراء سراب حين تتحدثون عن السلام مع هذا الكيان العنصري البغيض.. واستمع بعناية شديدة واضاف ابو عزمي: ايها الرفيق… انظر الى زميلي هذا مصور مميز، ابن مخيم هجرت اسرته سنة ١٩٤٨م.. انظر الى زميلي الثاني هذا صحفي مهم وشردت اسرته سنة ١٩٦٧م
قلت له: ابو عزمي انا ما تهجرت اسرتي بعدها في بديا… فقال بغضب: بل هجرت.. يا اخي بدنا نشرح القضية للصيني خلينا نشرد اسرتك!!
كان غاضبا من مشاريع السلام، لم ار في حياتي اردنيا او فلسطينيا او عربيا يتفانى في موضوع فلسطين مثل الاستاذ محمود الكايد
كان هذا من مقدساته وانعكس على كل مفصل من مفاصل الجريدة….
كانت الراي في عهده مدرسة للتجهيز الوطني والقومي الرفيع… ابو عزمي كان كريما مثل غيمة، وكان محبا لكل كرم باذخ ويعرف بالرجال، ويوفيهم حق قدرهم ولم يقل لي في حياته عن رجل انه بخيل ولم يكن كذلك
في امر المهنة.. كان ابو عزمي اول صناع فكرة (الموقف عبر المقال) وليس اهتمامه بالخبر فقط، لقد انتعش الكتاب في عهده انتعاشة
مادية ومعنوية ورفع من قدر مكافآتهم وصنع معجزة اسمها (السبعة ايام)، وهي مقالة اسبوعية على الصفحة الاخيرة من يظفر بها يكون قد بلغ الذروة..
استكتب ابو عزمي في السبعة الطيبة كما كان يدللها نيقولا زيادة، عبد الرحيم عمر، عبد الرحيم ملحس، حسني فريز، حسني عايش، بدر عبد الحق، ولقد تشرفت ببلوغها وحظيت بيوم السبت الذي كان اهم يوم في الاسبوع
ابو عزمي سيد من يقبض الريح وسيد التوازنات وسيد الانحناء الكريم حين تعصف البراكين بالصحيفة…
كان على غير حب للحكومات رغم انه لم يعاد الحكومات… ويرى ان الصحيفة ليس ملكا لاصحابها بل هي ملك الناس كل الناس
قال لي ذات تدريب ليلي: احفظ عني يا ابو رفعت انزه ثلاث روساء وزارات حملوا حقيبة الرئاسة (فوزي الملقي، واحمد عبيدات، وطاهر المصري)
كان ابو عزمي يستطيع ان يوازن بين متطلبات الادارة واولوية التحرير… لم ار في حياتي شخصا قادر ان يكون واثقا بالنجاح مثل محمود الكايد ويحققه
وحده هو جعل من الرأي مدرسة، كيف أن تكون صحيفة تأثيرها يتقدم على وسائل الاتصال المرئية والمسموعة.. كان يغامر حتى الحافة لكنه لا يقع واحدة من قصصه النبيلة…
غضب المرحوم ابو عمار من سؤال لي في مطار ماركا، وكان المرحوم شوكت محمود وطاهر المصري وزراء في حكومة دولة ابو ثامر (احمد عبيدات) في استقباله وقد رددت عليه بخشونة فاستشاط غضبا وباشر على طريقته كيل الشتائم، وقفت وقلت له (احنا ابو عمار منحبك لكن منحب فلسطين اكثر منك)
واحسست انه لا يحق لاي رئيس في الدنيا ان يتطاول علينا، ايامها كنا منفوخين بالعز والزهاء وقوة العراق.
عدت للصحيفة، كان ابو العزم بصورة الذي جرى في مطار ماركا… قلت له بحسرة: استاذ ابو عزمي لقد نال ابو عمار مني ومن الراي وانا لن امرق له هذه وكتبت مقالا بعنوان (انا نحب ابو عمار لكنا نحب فلسطين اكثر) ووقعته باسمي
قرا المقال وبكثير من الفتور قال احمد هذا ابو عمار ضيف على جلالة الملك وعلى البلد كيف بدنا ننتف ريشه..
قلت له: اما استقالتي او المقال لانني لا استطيع الاستمرار بالمهنة بعد الذي فعله…
كأني به هذه اللحظة حار رحمه الله بين انحيازه للمهنة وتعاطفه مع زعيم فلسطين ولقد ادركت ذلك بعمق.. وبغية ان اساعده للخروج من المأزق قلت له: يا سيدي اسأل دولة الرئيس اذا كان بصير ننتقد ضيفا على الملك ام لا؟!
وجد ابو عزمي فرصة كبيرة في الخروج من المأزق وظن ان دولة الرئيس إما انه لن يرد، وإما انه سيناصر عدم النشر.. طلب التحدث مع دولة ابو ثامر وبعد عدة دقائق كان دولته على الخط، حياه ابو العزم وتبادلا بعض ود ودلف الى الموضوع… قال ابو العزم: والله يا دولة الرئيس احنا محتارين من زاوية تجاوز على الصحفي والمهنة وعلى الراي ومن زاوية ثانية، ابو عمار ضيف على جلالة الملك…
اجاب دولة ابو ثامر: والله يا اخ محمود الامر لكن انتم اصحاب القرار، لكن ضيف جلالة الملك مش لازم يحترم مواطني الملك!؟
وهنا ابو العزم تخلى عن حياديته وقرر الانحياز لي ولـ الراي…
نشر المقال كما انا كتبته بحذف واحد فقط بدل (احمد سلامة) استبدلها بتوقيع (المحرر)، ولما جادلته قال لي كلاما عميقا ومهما وتاريخيا
سامسك عن تفاصيله لان فيه اشياء لم تعد بعد مناسبة للنشر…
رحم الله ابو عزمي حين وضعت يده في يدي بمستشفى الخالدي بكى وبكيت وعرفت انها النهاية
كان محمود الكايد في مسيرة الراي وفي سيرتي روحا اخاذة دفاقة كان هو الموحد