يكاد لا يخلو اللغة اليومية المتداولة من الحديث عن الأحزاب والحياة السياسية، تستطيع أن تلمس ذلك في النقاشات المستمرة في الأوساط السياسة والشعبية، في الإعلام الرسمي وغير الرسمي، في الغرف المغلقة الضيقة والمعلنة، في منصات التواصل الإجتماعي، في المدارس والجامعات، في الندوات والمؤتمرات والمقاهي والأندية والصالونات السياسية والمنتديات.
حالة الإندفاع الحزبي والسياسي هذه حتى وإن لا تزال في إطار النقاش والتنظير ولم تكتسب فعلا سياسيا واسعا كما هو المأمول، إنما تعكس الرغبة الجماعية في تجربة سياسية حزبية وفي اختبار الديموقراطية مع الأخذ بعين الإعتبار عدم رفع سقف التوقعات في نجاح هذه التجربة من أول مرة، في المعدل الطبيعي تحتاج المجتمعات إلى فترة زمنية لاستيعاب صدمة الديموقراطية ثم التفاعل معها علميا ومعرفيا وممارسة.
لم يكن الأردن خاليا من العمل الحزبي، بل العكس من ذلك فقد احتضن الأردن الحياة السياسية مبكراً ويحسب للدولة آنذاك استجابتها السياسية تلك قبل التخلي عنها لثلاثة عقود، ثم العودة القوية نهاية الثمانينات، ولاحقا التراجع المحلوظ والذي يمكن احالة هذا التراجع لثلاث أسباب أساسية:
1- قانون الإنتخاب القديم الذي خلق حضورا محدودا وضيقا للأحزاب في البرلمان، مقابل حضور أوسع لطبقة طفيلية تتغذى على جذع الدولة وتقيم علاقة معها أساسها المصلحة والمنفعة.
2- تراجع العمل التشريعي الرقابي الأقدر على قيادته الحزبيين، لصالح دور خدمي لا يلبي الطموح العام والذي ساهم في فتح الطريق أمام ماراثون فقدان الثقة بين الشعب والسلطة.
3- جمود الأحزاب وتمترسها خلف الأسوار الأيديولوجية لها، وقراءة حركة التاريخ بشكل خاطئ بشكل منعَ من تطور الأحزاب ومن تطور برامجها وأفكارها.
مع الإستحقاق السياسي الذي يستعد له الأردن في مئوية الدولة الثانية، فإنه لا يمكن قراءة تحرك جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين في تشكيل اللجنة الملكية لتحديث وتطوير المنظومة السياسية وتأكيده على تفعيل دور الأحزاب في الحياة السياسية، بمعزل عن المسؤولية الأخلاقية وعقل القيادة الراشدة، وسوى أنه تحرك ذكي ومسؤول ويرسخ القناعة بأن مستقبل الأردن في أحد أبرز جوانبه مرتبط بشكل وثيق بالحياة السياسية والديموقراطية، هذه القناعة استقبلتها مؤسسات الدولة وشرعت فوراً في سنّ قانوني الأحزاب رقم 7 لسنة 2022 والإنتخاب رقم 4 لسنة 2022.
لكن ما هو شكل الحياة الحزبية السياسية التي تريدها الدولة؟ الجواب موجود في تفاصيل مواد القانونيَن، وهو قطعا حياة حزبية سياسية تعيش لذاتها ولزمنها الآني والمستقبلي وتنقطع عن الحياة الحزبية القديمة بكل عناوينها، وهو أيضاً قطعا حياة حزبية سياسية يناط لها خلق حواضن اجتماعية للدولة محل الحواضن الكلاسيكية الثلاث ( المحافظين، الإسلام السياسي، رأس المال الفلسطيني عصبة تجار نابلس- الخليل ) لذلك خفّض قانون الإنتخاب سن الترشح لسن الخامسة العشرين في محاولة لتوسعة القاعدة الشبابية ولذلك أيضاً فرض قانون الأحزاب شروطا قاسية لتأسيس الأحزاب أو تصويب أوضاعها.
في المشهد العام تراقب الدولة أولا استجابة الحواضن الإجتماعية للتحول السياسي الأردني، لكن هذه المراقبة لا تدوم طويلاً لأسباب كثيرة أبرزها هجران المجتمع للحياة الحزبية السياسية جرّاء غياب الوعي الطبقي الرافد للحياة الحزبية من جهة ومعادلة المساومة بين رغيف الخبز والحزب من جهة أخرى، لذلك سرعان ما تتدخل الدولة في تنظيم المشهد السياسي الحزبي، وهو تنظيم اتخذ مساريَن:
الأول : مسار التدخل المباشر، حيث استطاعت الدولة من تأسيس أحزاب موالية لها وهو حق مشروع في إطار توسعة قاعدتها الشعبية المؤيدة لها، وذلك من خلال إعادة إنتاج المحافظين ورجالات الدولة داخل أحزاب سياسية تمهيدا للإستحقاق الإنتخابي.
الثاني: مسار الإحتواء والتدخل الناعم، والحديث هنا عن الدفع بصورة غير مباشرة لتشكيل إندماجات وتحالفات بين الأحزاب إما على أساس أيدولوجي فكري ثقافي أو على أساس مصالح متبادلة وبرامج. أما السبب فهو رغبة الدولة في ترشيق الخارطة الحزبية بحيث تقود ثلاثة الى خمسة أحزاب في الحد الأعلى المرحلة الإنتقالية السياسية المقبلة.
وبناء عليه، اكتمل يمين الدولة ممثلا بالثنائي ( المحافظين والإسلام السياسي ) واكتمل الوسط، واكتمل اليسار الراديكالي، في حين ينتظر يسار الوسط اكتماله في سياق جولات من مفاوضات قد تفضي في نهاية المطاف إلى اندماج واسع وعريض.
ثلاثة شهور تبقى من عمر ترتيب الحياة الحزبية السياسية في الأردن، إذ يشترط مرور ستة أشهر على تأسيس الحزب للمشاركة في الإنتخابات البرلمانية القادمة التي ستقام ما بين حزيران ونوفمبر العام القادم وفق الإطار الزمني التشريعي، حصة الأحزاب منها 30% بواقع 41 مقعدا. وتشير الترجيحات حرص الدولة على اخراج المشهد بصورة مثالية وفقا لالتقاطات قادمة من مركز القرار، وفي انتظار ذلك ووفقا لقراءة المعطيات الحالية فإن الأحزاب التي ستحصد مقاعد لها وزن داخل البرلمان هي الأحزاب الصادقة ذات التنظيم الشبكي الأفقي، التي تعتمد في بنائها التنظيمي على اللامركزية وتعزيز دور الشباب فعلا لا تنظيرا، والتي استطاعت من إنجاز برامج سياسية واقعية محركها العلم والمعرفة والفهم الناضج والموحد للمصلحة الوطنية العليا، وتجيب على أسئلة الناس وتقدم الحلول العملية وتحدث الفارق الوطني المطلوب.