الذكاء الصناعي
الأستاذ الدكتور خليفه ابوسليم
24-09-2023 09:13 PM
يتميز الذكاء الإنساني بأنه مجموعه كبيرة مترابطة من الملكات والقدرات التي تحكم وتوجّه تصرفات الإنسان في المواقف المختلفة. اما الذكاء الصناعي فيحاكي مجموعة صغيرة من القدرات التي يتميز بها الذكاء الإنساني وهي: التعلّم، والتسبيب والتفسير، وحل المسائل، والإدراك، واستخدام اللغة. يعتمد الذكاء الصناعي على طريقة الخطأ والصواب للوصول الى الإجابة الصحيحة وتخزين هذه العملية واستخدامها في مواقف مشابهة (تعلم الببغاء). ويعتمد كذلك طريقة التعلم بالخبرات المكتسبة سابقا وتطبيقها على مواقف مناظرة ومشابهة لاحقا مع التحوير للوصول الى المبتغى.
تعود البداية العملية للذكاء الصناعي الى العام 1951 عندما تم برمجة لعبة الداما اللوحية (وهي مجموعة من الحركات المحسوبة والمدروسة) على نسخة الكمبيوتر في جامعة مانشستر. وفي العام 1952 تم كتابة برنامج المتسوّق وهو برنامج بحث آلي عن سلعة معينة في مجموعة من المتاجر ضمن مجمع تجاري (تعلم آلي ذاتي). خلال عملية البحث العشوائي عن السلعة يستطيع البرنامج تخزين وتذكّرالمسارات والمعلومات التي يصادفها حتى اذا بحث عن نفس السلعة مرة اخرى فان المتسوّق يذهب مباشرة الى السلعة دون المرور بنفس العمليات السابقة وبما يشبه الى حد كبير ذاكرة الإنسان. باختصار يمكن القول ان الذكاء الصناعي هوتقليد للذكاء البشري، وعملية غرس للذكاء في الآله من خلال الخبرات المكتسبة. دخلت مراكز بحث جديدة في مجال الذكاء الصناعي عندما تم كتابة برنامج المتسوّق على النموذج الأولي لكمبيوتر آي بي إم في الولايات المتحدة الأمريكية. اذن فكرة الذكاء الصناعي الحديث ليست جديدة بل هي تطورطبيعي للمهارات والقدرات الحاسوبية بالتعلم من خلال الخبرة حيث تم تطوير النسخة الأولى من برنامج المتسوّق بإضافة قدرات جديدة وتخزين العمليات وتطوير مهارات التعلّم الآلي الذاتي من خلال الخبرات المكتسبة، واستمرت عملية التطوير الى ماوصلنا اليه في هذه الأيام. بالتأكيد عملية الإستحداث والتطويرلن تتوقف عند حد معين في المستقبل.
يمكن تلخيص قدرات الذكاء الصناعي بالتبسيط:
الحوسبة التطويرية: والتي كانت مقدمة لنشوء علم الإتصال بما يعرف بالشبكة العصبية للكمبيوتر والمعالج المتعدد، وطوّرت الى مايعرف بالحاسب الفائق القدرة والذي يستطيع محاكاة ادق الأنظمة مثل آلية عمل الخلية البيولوجية. يجري العمل على تطوير هذه الخاصية لتحاكي انظمة ادق مثل الأنظمة الجزيئية والذرية والتي سيكون لها اثر واضح في العلوم التطبيقة المستقبلية. دخلت هذه القدرات وستدخل في كثير من انظمة الحياة المختلفة مثل علم الجريمة، والبيولوجي، والإدارة....الخ
التفسير المنطقي وحلول المسائل: التفسير الإستنباطي للموقف او المشكلة، وهواحد ملكات الذكاء الإنساني، والذي يقتصرفي الذكاء الصناعي على معالجة للبيانات الملقمّة من المبرمج. يتميز حلول المسائل بمجموعة من العمليات النظامية الممنهجة وخطة الخطوة خطوة بهدف الوصول الى حلول معقولة للمسألة مدار البحث. من هذه المنطلقات بدأت عملية تطوير لغات البرمجة المختلفة والمعروفة، بعضها لازال قائما وبعضها الآخر عفى عليه الزمن
الإدراك: يتم الإدراك من خلال مجموعة المجسات الملحقة بالآلات والتي تعطي علاقات مكانية بين الأشياء وتربط بين الإدراك والفعل او التصرف
اللغة: تشمل اللغة المحكية والإشارات الإصطلاحية والتي تعني امكانية تكوين عدد لامحدود من الجمل والتعابير.
يركز الذكاء الصناعي في استراتيجية العمل على الذكاء التطبيقي، والمحاكاة العقلية او الذهنية. على ان الغاية النهائية للذكاء الصناعي هو الوصول الى حالة عقلية تشبه الحاله الإنسانية والتي لايمكن تمييزها عنها وهي مايعرف بالذكاء الصناعي العام. على ان الذكاء الإنساني غاية لايمكن الوصول اليها لاعتبارات كثيرة، وحتى انه يمكن القول انه لايمكن الإقتراب من الحالة العقلية لأبسط المخلوقات فكيف بالإنسان اذكى المخلوقات المعروفة. اذن هذا هو الإختلاف الأول والرئيس بين الإنسان والآله. وعليه يمكن القول ان الذكاء الصناعي لايمكن ان يكون بديلاَ للذكاء الإنساني.
اما على صعيد الذكاء التطبيقي والذي يعنى بانتاج انظمة خبيرة في مجالات تطبيقية متعددة، فقد تم الوصول الى انظمة متميزة ومتقدمة في مجالات كثيرة، ولازال التطوّر مستمراَ. لابد من الإشارة هنا الى ان البيانات الأساسية والمهارات الحاسوبية المكتسبة هي من فعل العامل البشري والخبرة المكتسبة او التعلم او التطويرالذاتي. بمعنى ان الذكاء الصناعي تابع للذكاء البشري وليس العكس. بالمقابل فإن التطورات المتسارعة في القدرات الحاسوبية اعطت الفرصة لتطوير قدرات الذكاء الصناعي مثل تقسيم العمل الحاسوبي الى مجموعة من البرامج الفرعية التي تعمل باستقلال عن بعضها والتي تؤدي في النهاية الى اعداد برامج حاسوبية فذّة قادرة على اداء مهام معقدة ومتطورة بأزمان قياسية صغيرة. هذا الأمر ادى الى ايجاد استخدامات مختلفة جديدة للذكاء الصناعي في الحياة العامة.
تطبيقات الذكاء الصناعي: بحلول هذا القرن فإن ما تم تطويره وتعزيزه من قدرات حاسوبية فائقة تستطيع معالجة البيانات الضخمة والمعقدة والتي تصل الى آلاف ملايين الأحجام مما كان يمكن التعامل معه، إضافة الى تطوير الشبكات العصبية الحاسوبية، مكّن الذكاء الصناعي من تطوير قدرات وادخال مفاهيم جديدة مثل التعلّم الذاتي والتي هي عبارة عن اكتشاف علاقات بينية في قواعد البيانات المدخلة غير معروفة مسبقاَ. وهذا الأمر يؤدي للإستفادة من الذكاء الصناعي بتطبيقات عملية كثيرة في اوجه الحياة المختلفة. فبدأ الذكاء الصناعي الدخول في خدمة المجتمع بطرق متعددة مثل:
-التعرف على الصور والاجسام: ادخال بيانات خاصة لأجسام متباينة مثل صور حيوانات او نباتات او اشياء اخرى يمكّن الآله من التمييز والتعرف على الصور والأجسام مثل التمييز بين تفاحة وبرتقالة او بين قطة وفأر او حتى ممارسة بعض الألعاب العقلية مثل الشطرج
-وسائل المواصلات: دخل الذكاء الصناعي في صناعة المواصلات حيث تم تطوير آليات نقل ذاتية بدون سائق. يتم برمجة هذه الآليات لظروف الطرق المتوقعة، وتتولى هذه الآليات قيادة نفسها بنفسها والإستجابة للظروف المختلفة على الطرق. لكن لغاية الآن لا يمكن تطويرآليات قيادة ذاتية بالكامل للظروف الفنية والإستجابة المطلوبة، وكذلك للحاجة لبرمجة وادخال البيانات المختلفة لجميع الطرق والتي يمكن ان تتجاوز اطوالها مئات الملايين الكيلومترية الأمر الذي لايمكن تطبيقه
-العلوم الطبيعية: حيث يتم الإعتماد على مبادئ الرياضيات والإحصاء لاستخدام الذكاء الصناعي في حلول مسائل في العلوم الطبيعية والرياضيات. ويدخل الذكاء الصناعي في اساسيات العلوم الطبيعية كالفيزياء التجريبية التي تهتم بإجراء التجارب العلمية وتحليل البيانات وايجاد علاقات تجريبية في مجالات مختلفة كالفيزياء النووية والبيئية والفلكية وغيرها. ولا يخفى الأهمية الكبيرة التي يحتلها الذكاء الصناعي بصفته داعم رئيس لعلم البيانات احد اهم اهداف الفيزياء التجريبية التي تعتمد على الحصول على بيانات ومعلومات تجريبة وتحليلها وايجاد حلول لمسائل معقدة وغامضة عند معالجتها بالطرق التقليدية وذلك من خلال تحسين الدقة والكفاءة التجريبية. ومن الأمثلة على ذلك ايجاد علاقات ونظريات تمكّن من فهم كثير من الظواهر الكونية والأنظمة الذرية والنووية. كذلك يمكّن تحليل البيانات التجريبية الوصول الى اكتشافات واختراعات تطبيقية في الصناعات والتكنولوجيا الحديثة. لكن يجب الإنتباه الى ان الذكاء الصناعي يؤدي احيانا الى تشويش العملية الأكاديمية او التطبيقية حيث انه لايمكن التمييز بين الفعل البشري او الآلي. مثلا وبالرغم من سخافة او عدم منطقية النتائج إلّا ان الذكاء الصناعي يمكن ان يقدمها حلًا للمسألة موضوع البحث، هنا يأتي دور العقل البشري في الحكم
-اللغات البشرية: تعتمد على الإحصاء اللغوي والذي يشمل متغيرات كثيرة مثل الأصوات وتردداتها. وتشمل البرمجة التعرف على المعاني المحتملة لمجموعة من الجمل اللغوية ضمن فقرات مكتوبة بالإعتماد على مبادئ الإحصاء والإحتمالات والتحليل والتعلّم الذاتي. وقد كتبت موديلات لغوية متخصصة في هذا المجال مثل نظام الدردشة الشائع الإستخدام. الا ان هذه البرامج، والتي لايمكن تمييزها عن اللغة البشرية، لها محاذير حيث انها تعطي معاني او صور فوتوغرافية في احيان كثيرة ليست مقصودة تؤدي الى نتائج مغلوطة او الى تشويش. هذه المحاذير يجب فحصها من قبل العقل البشري والذي يتميز بقدرته على الحكم والإنتقاء الصحيح
-المساعدة الإفتراضية: منها مساعدة المستخدم في الإدارة للقيام ببعض المهام مثل استقبال المكالمات الهاتفية، او التوجيه على الطرق والقيادة الذاتية، او اعداد خطة وجدول العمل، او المتاجرة الإلكترونية وغيرها. تتميز هذه الخدمة بأنها شخصية، بمعنى انها تستجيب وتتعلم من الرغبات الشخصية وتطور مهاراتها من الخبرات المكتسبة من المستخدم. اذا تفحصنا التطبيقات المبرمجة على التلفون النقّال نجد انها تطبيق مباشر لهذه الميزة في المساعدة الإفتراضية، ونجد انها تتطور مع الزمن ومع الموديلات المختلفة من الأجهزة الخلوية
-التطبيقات الطبية: للذكاء الصناعي دور مهم في الطب التشخيصي والطب العلاجي بطرق متعددة لايمكن الإحاطة بها الاّ ان التقنيات المعتمدة على الذكاء الصناعي اثبتت فاعلية كبيرة في تشخيص بعض الأمراض بكفاءة عالية وبشكل مبكر مثل الكشف عن سرطان الجلد، والطب الوقائي، والتصوير الشعاعي. من الأمثلة على الطب التشخيصي انه يمكن ادخال الصور الشعاعية مع التشخيص للحواسيب حتى انه اذا أدخلت صورة شعاعية جديدة للحاسوب فإنه يتم التعرف عليها وتشخيص المرض مباشرة دون الحاجة للرجوع لطبيب الأشعة. كذلك يستفيد الطب العلاجي بشكل كبير من الذكاء الصناعي بطرق متعددة مثل مراقبة مستويات السكر في الدم وتقدير الجرعة العلاجية اللازمة، واستخدام برامج المحاكاة الحاسوبية لمراقبة المرض وتقدير الجرعة والإستجابة للعلاج وتقليل تكاليف العلاج. كذلك يمكن استخدام الذكاء الصناعي في علم الصيدلة بايجاد أدوية لم تكن معروفة وذلك بالإعتماد على العلاقات البينية في البيانات المتعلقة بمرض معين. وفي التشبيهات والمحاكاة العقلية تستخدم الحواسيب لتطوير نظريات عن فهم كيفية عمل العقل البشري مثل التعرّف على الوجوه والأشخاص، وهذا الإستخدام يتم تطبيقه بنجاح في علم الأعصاب وفي علم النفس
-التطبيقات الزراعية: يحتل الذكاء الصناعي مكانة مهمة في الزراعة الحديثة والصناعات المرتبطة به. في مجال الإنتاج النباتي فيما يعرف بالضبط والدقة الزراعية مثل تخفيض تكاليف الإنتاج بتقنين استخدام الأسمدة والمبيدات وتحديد المواعيد المناسبة مثل مواعيد الري، ومعرفة انواع المحاصيل المناسبة (الدورة الزراعية). كذلك يمكن تحسين الإنتاجية بزيادة كمية المحصول وتحسين النوع، واستخدام الآلات الزراعية في الحصاد. وفي مجال الإنتاج الحيواني يمكن الإستفادة من الذكاء الصناعي بجمع المعلومات والبيانات وتحليلها للتعرف على سلوكيات الحيوانات الزراعية وطرق الإتصال، وتحسين الإنتاجية او التكاثر، والكشف عن الأمراض والسيطرة عليها. لا شك ان هذه الإستخدامات ستستمر بالتطور لتحسين الكفاءة وتقليل الكلفة.
نجد ان للذكاء الصناعي تأثيرات مجتمعية واخلاقية منها: اماتة لبعض الوظائف والأعمال مثل انتفاء الحاجة لطبيب اشعة متخصص حيث يمكن للذكاء الصناعي ان يقوم بهذه المهمة. وايضا تنتفي الحاجة الى الكثير من السائقين وخدمات التوصيل. بنفس الوقت فإن الذكاء الصناعي يخلق فرصا واعمالا جديدة لكنها تحتاج الى مهارات مختلفة عن المهارات التقليدية، مثل خبرات مدخلي البيانات، وأمن المعلومات. وبذلك فإن للذكاء الصناعي تأثيرات واضحة على مستوى التقدم العلمي والتكنولوجي، وعلى اتجاهات العمل والمهن المطلوبة والمهن البائدة في المستقبل. بنفس الوقت يمكن ان يكون للذكاء الصناعي تأثيرات سلبية على المجتمع مثل الظلم الذي يمكن ان يقع على بعض من المجتمعات من خلال المعالجة الإحصائية لمعدلات الجريمة وانواعها. كذلك يمكن بالذكاء الصناعي خرق قواعد الخصوصية الشخصية بسبب امكانية اختراق قواعد البيانات من الشخص الخطأ.
كلمة اخيرة، ان الذكاء الصناعي التطبيقي يحقق نجاحات متعددة ومتسارعة في كثير من الإستخدامات لرفاه البشرية مع وجود بعض السلبيات التي لا يمكن مقارنتها بالإيجابيات. وسوف تدخل تطبيقات واستخدامات جديدة ومفاهيم جديدة للذكاء الصناعي لم تكن معروفة سابقا. على ان الوصول الى حالة الذكاء الصناعي الإنسانية، اي محاكاة الذكاء البشري والقدرات العقلية البشرية امر لايمكن الوصول اليه.