حين كلّف الملك عبد الله الثاني د. معروف البخيت بتشكيل حكومته الأولى عقب تفجيرات القاعدة الانتحارية أواخر ,2005 كانت متطلبات تلك المرحلة داخلية اقتصادية بامتياز; فملف الإرهاب والتصدّي له كان بيد دائرة المخابرات العامة فيما رسم العملية الدبلوماسية وإدارتها كانا بيد القصر.
استدامة النمو الاقتصادي, تحسين مستوى المعيشة وتوزيع عوائد التنمية بعدالة شكّلت آنذاك أهم التحديات أمام د. البخيت, الذي تنقّل خلال العقدين الماضيين من المؤسسة العسكرية, إلى السلك الدبلوماسي فالمطبخ السياسي/ الاستراتيجي ثم نائبا لرئيس مجلس الأعيان إلى أن أعيد تكليفه يوم الثلاثاء ليخلف سمير الرفاعي.
وقتها اختير د. زياد فريز, المشهود له بكفاءته وخبرته في عالم المال والاقتصاد, نائبا للرئيس, وزيرا للمالية, ليدير مطبخ السياسات الاقتصادية والاجتماعية تحت إدارة رئيس مجلس الوزراء صاحب الولاية العامة.
لكن لأسباب كثيرة, لم يتحقق ذلك الهدف. تدخّلت جهة أخرى واختطفت ملف الإشراف على غالبية أعضاء الفريق الاقتصادي, قبل أن تتعدى الجهة ذاتها, التي عملت في الديوان الملكي على غالبية مفاصل السياسات الخارجية. وبذلك سحب البساط من تحت أرجل د. البخيت الذي فشل في كبح جماح تلك الجهة "المدعومة".
كانت حكومته بجسمين. وبدأت تفقد صدقيتها وتجانسها. وتعمق الشد مع الإسلاميين, الذين اتهموا بأنهم يسعون لنقل تجربة حماس في الاستئثار بالسلطة عبر صناديق الاقتراع, مستغلين الانتخابات البلدية والنيابية عام .2007 أصحاب المواقع الرئيسية في الدولة قرّروا قصقصة أجنحة الحركة الإسلامية قبل الانتخابات لكي لا تختطف تمثيل الأردنيين من أصول فلسطينية, الذين لطالما اشتكوا من التهميش السياسي. فوقع التزوير, الذي اشتركت فيه مكونات مطبخ القرار الرسمي كافة قبل أن ينقلب سحر التزوير على الوطن والملك.
اليوم يواصل الرئيس المكلف مشاوراته لتشكيل حكومته بعد أن أمره الملك بإدخال إصلاحات سياسية "حقيقية" بما فيها سن قانون انتخاب, وتعديل منظومة التشريعات الناظمة للحريات: الإعلام, الأحزاب, وحرية التجمع.
تكليف البخيت أدهش الكثيرين من صناع القرّار بسبب تجربته السابقة وهشاشة حكومته الأولى أمام مراكز القوى. يرى سياسيون أن أولوية حكومته الآن تكمن في مكافحة المفسدين وسحب قانون الانتخاب من مجلس الأمّة ثم تشكيل لجنة متعددة الأطياف بمشاركته لنسج قانون القائمة النسبية من وحي المقترحين الواردين في الأجندة الوطنية, قبل تقديمه إلى مجلس الأمة.
أعضاء الحكومة لا يجب أن يقتصروا على لون بعينه; ديجيتاليون أو حرّاثون. الدولة للجميع. يفترض تطعيمها بشخصيات مخضرمة ومقبولة لدى الناس, من تكنوقراط يواكبون خطط إصلاحية شفافة ويحاورون المانحين, بخاصة حقائب التخطيط والمالية- مستقلين, إسلاميين, يساريين حتى تتوزع مسؤولية اتخاذ القرار على الجميع.
معروف أن معروف ليس مكان توافق وإجماع. فلم تقتنع بهذا الخيار غالبية القوى الفاعلة على الساحة; بما فيها الإسلاميون, قوى يسارية تقود الاحتجاجات الأسبوعية في الشارع, نخب اقتصادية وسياسية, ما تُعرف بصالونات الشغب السياسي, نواب وأعيان.
في المقابل مدح هذا الخيار شخصيات قيادية بارزة في مفاصل الدولة ومتقاعدون عسكريون انضموا إلى ركب المعارضة قبل أشهر. هذه القوى تجادل بأن د. البخيت اليوم ليس ما كان عليه قبل خمس سنوات. لذا أضحى أول شخصية تعود إلى كرسي الرئاسة في عهد الملك عبد الله الثاني. أمضى شهورا يراجع نفسه, تعلم من أخطائه وبخاصة بطئه في اتخاذ القرار. زار البوادي والقرى والجامعات وتجمعات من يسمون بالمثقفين الوطنيين, وألقى سلسلة محاضرات حول رؤيته لإصلاح سياسي تدريجي وضرورة محاكمة المفسدين.
اليوم لن يكون لديه أي أعذار بأن هناك "حكومة ظل" قيد التشكيل أو قائمة لعرقلة برامجه. كما أن الأجهزة الاستخبارية عرفت واجباتها ومهامها الأساسية ولم تعد تتدخل في أدق تفاصيل العمل السياسي واليومي انصياعا لأوامر الملك قبل عامين. كما أن رؤساء, الديوان الملكي ناصر اللوزي, الأعيان طاهر المصري والنواب فيصل الفايز - بحسب ما يرشح من معلومات- يساندون هذه الحكومة ولن يبخلوا في تقديم النصح والإرشاد لإنجاحها.
يلج د. البخيت مكاتب مقر الرئاسة القديمة, وليس الجناح الذي جهّزه الرئيس السابق مع معاونيه في منزل الرئيس مقابل دار الرئاسة. ينظر إلى المحيط الذي يواجه تحديات وتهديدات خطيرة. تهب رياح التغيير المدعوم من الغرب, باتجاهنا من تونس, مصر, الجزائر, اليمن, سورية حيث قررت الشعوب اتخاذ قرارها بيدها والتخلص من الفساد المؤسسي, الظلم, القمع السياسي ونهب أصول الدولة وإجبار غالبية الفقراء على دفع ثمن أخطاء وخطايا, استفاد منها ميسورون مقربون من السلطة في عصر تداخل الحكم بالبزنس.
لذلك فإن متطلبات المرحلة الحالية يجب أن تستوحى مما يموج في الإقليم قبل أن يصل إلينا, بما بات يعرف ب¯ تونسامي "أي تسونامي تونس". متطلبات المرحلة الحالية يجب أن تعالج من جذورها لمعالجة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستفحلة.
الشارع يريد إصلاحات سياسية حقيقية. غالبية الشخصيات التي التقاها الملك خلال الأسابيع الماضية تحدثت بنبض الشارع. طالبت بضرورة محاسبة الفاسدين, مراجعة النهج المتبع بهدف الاستفادة من الأخطاء, نظام ضريبي تصاعدي, وقف سحب الجنسيات, إدانة التزوير في الانتخابات الأخيرة وخطيئة انتزاع ثقة حكومية من 111 نائبا من أصل .119
بالتأكيد يعي د. معروف ذلك, كما يعيه صاحب القرار. يدركون أيضا أهمية اختصار الزمن بحد أقصاه ستة شهور لتجهيز قانون انتخاب جديد على أساس القائمة النسبية, يحل بعدها مجلس النواب وتجرى انتخابات على أساس برامج واضحة لأحزاب وتيارات, تفضي إلى تداول سلمي للسلطة. فالملك لم يعد قادرا على تحمل الأخطاء بعد أن اختبأت كل الحكومات وراءه وبدأت تسحب من رصيده في بلد لا يوجد للأردنيين خلاف سياسي مع النظام الهاشمي صاحب الشرعية السياسية والدينية و"صمغ" الجميع من المنابت والأصول كافة: حراثون, رعاة أغنام, رجال أعمال, صناعيون, مهنيون, عمال, معلمون, قضاة, نشطاء سياسيون, إسلاميون, يساريون, محافظون, موظفو القطاع العام بما فيه القوات المسلحة, الأمن العام ودائرة المخابرات العامة. كلهم ساهموا في بناء وتشكيل الأردن الحديث. البلد للجميع ولا فضل لأحد على الآخر إلا بما يقدمه للوطن.
فالعالم العربي اليوم ليس عالم الأمس. ما حدث في تونس هزّ أسس علاقة التبعية بين الحاكم والمحكوم. للطرفين حقوق وواجبات. الجميع مستعد للتضحية إذا كان الحكم نزيها يقبل الرأي والرأي الآخر ولا يقصي أيا من مكونات المجتمع. مظلة الوطن تغطي كل من يحمل رقما وطنيا بغض النظر عن الأصل والفصل, العرق والدين.
غالبية الأنظمة العربية بدأت تعي اليوم أن استمرارها يأتي من خلال تقليص صلاحيات الأفراد ومنع السلطة المطلقة التي هي مفسدة مطلقة.
المشاركة السياسية الجديدة بعد ما وقع في تونس, وما يحصل في مصر, في الأردن, وغيره من الدول العربية يعني أن الجميع سيتشارك في إدارة شؤون الدولة. فالكراسي حول الطاولة يجب أن توزع بطريقة مختلفة, ولا بد من وقف سياسات الإقصاء التي وصمت عهد "الليبراليين الاقتصاديين". هؤلاء لم يحسبوا حسابا إلا للشباب على حساب "الشياب", وبعدها حقبة "الكابيتاليين" الذين ملأوا غالبية مناصب الدولة الرئيسية برجالهم ونسائهم على حساب الكفاءة والتنافس الحر للجميع.
لذا جاءت نقمة الشعب.
يعي د. البخيت أن حكومته ستخدم في مرحلة انتقالية لشهور يؤسس خلالها لمرحلة سياسية تفضي لتداول سلمي للسلطة وبذلك يتحمل الجميع النتائج بدل تحميلها حصرا لرأس الدولة. يستتبع ذلك سياسات اقتصادية واجتماعية جديدة شكلا ومضمونا, تأخذ فيها كل جهة حصتها من كعكة الوطن. سياسات لا تقوم على استعداء القطاع الخاص المورد الأكبر لضرائب الخزينة, زيادة العطايا وتضخيم الجهاز البيروقراطي عبر توسيع نطاق البطالة المقنعة.
فلنتذكر, الشارع الأردني لم يطالب فقط برحيل حكومة سمير الرفاعي. وسيتحرك من جديد في حال شعر أن النهج لم يتغير.
المطلوب من الحكومة الجديدة مراجعة السياسات الاقتصادية الانفتاحية وبخاصة المتعلقة بالخصخصة ونتائجها الكارثية لا سيما في بعدها الاجتماعي, والوصول الى توصيات والاستدارة عن جزء كبير منها.
لكن ذلك لا يعني استمرار العمل بدولة العطايا وتضخيم القطاع العام المترهل, ومعاداة القطاع الخاص الذي يورد للخزينة غالبية العوائد من ضرائب الدولة.
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
(العرب اليوم)