تعتبر الهيمنة الثقافية أحد الجوانب الهامة في العلاقات الدولية والسياسة العالمية.
فهي تمثل القدرة على فرض ثقافة وقيم معينة على الدول الأخرى، سواء كان ذلك عبر القوة الناعمة أو القوة الصلبة.
تظهر هذه الظاهرة بوضوح في التفاعل بين الدول القوية والدول الضعيفة، حيث تلعب الدول القوية دورًا مهمًا في تشكيل الساحة الثقافية العالمية .
الدولة القوية تفرض ثقافتها على الدولة الضعيفة، ويمكن أن يكون ذلك عبر وسائل متعددة مثل وسائل الإعلام والتكنولوجيا والسياسة الخارجية.
تستخدم الدولة القوية نفوذها الاقتصادي والثقافي لنشر قيمها ولغتها وثقافتها في جميع أنحاء العالم. وهذا يمكن أن يؤدي إلى تقليل تنوع الثقافات وتوحيد العالم تحت نفس النمط الثقافي .
على الجانب الآخر، تقوم الدول الضعيفة بمحاولة اتباع أثر الدول القوية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة في الهوية الثقافية الخاصة بهم وإلى شعور بالدونية تجاه الدول القوية. هذا الشعور بالضعف والتشاؤم يمكن أن يكون مؤثرًا سلبيًا على التنمية والازدهار في هذه الدول.
تظهر دائمًا فئة من المشككين الذين يحاولون بث نزعة التشاؤم بين أفراد الدول المهزومة أو الضعيفة. هؤلاء المشككون قد يستغلون الوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر رؤيتهم التشاؤمية ويقدمون رؤى سلبية للمستقبل.
إن هدفهم هو إضعاف الثقة في الحكومة أو النظام السائد وزيادة الاحتجاجات وعدم الرضا..
ويكون التصدي لهيمنة وثقافة الدولة القوية المنتصرة،ومجابهة وسائل إعلامها السامة، من خلال الدور الحيوي للثقافة وتعزيز الوعي ،فيمكن تعزيز الوعي الثقافي من خلال التعليم والثقافة الوطنية والإرتقاء بالفن والأدب،إذ يجب على الدول الضعيفة الاستثمار في تعزيز الثقافة الوطنية والمحافظة على التنوع الثقافي.
ويجب التركيز على تعزيز الوعي بالثقافة الوطنية، والقيم الثقافية للدولة الضعيفة بشكل أكبر، من خلال التعليم ووسائل الإعلام، حيث ان تعزيز الثقافة يتم من خلال دعم الفن والأدب المحليين الملتزمين والترويج لهم على الساحة العالمية، إضافة إلى تعاظم الاحساس بالهوية الوطنية، فينبغي أن تكافح الدول الضعيفة الهيمنة الثقافية، وتدافع عن ثقافتها وقيمها، وأن تمضي بثقة في مقاومة هيمنة الدولة المنتصرة القوية، وأن تتعاون الدول الضعيفة معًا للتصدي للهيمنة الثقافية والدفاع عن تنوع الثقافات، ونبذ ما يسمى "ثقافة العولمة".
الهيمنة الثقافية هي ظاهرة معقدة ومتنوعة، وتحتاج إلى إستراتيجيات شاملة للتعامل معها والحفاظ على تنوع الثقافات والهويات الوطنية. إن من أهم المفاهيم التي يمكن أن نستلهمها من أفكار عالم الاجتماع والتاريخ الإسلامي إبن خلدون، هي فكرة الانعتاق من بوتقة الدول المنتصرة ،والسعي نحو بناء دول ذات هوية جامعة ومستقلة، فقد أشار إبن خلدون إلى أهمية تطوير الأمم والدول الضعيفة للخروج من حالة الاستعباد الثقافي والسياسي وتحقيق التقدم والإزدهار.
للنهوض من جديد وبناء دول ذات هوية جامعة، يجب أن تعتمد الدول الضعيفة على السعي الدؤوب ،دون كلل أو ملل، نحو الانعتاق من بوتقة الدول المنتصرة، الأمر الذي يتطلب رؤية واضحة وإستراتيجيات تنمية مستدامة، تسمح للدول الضعيفة بالارتقاء،وبناء مستقبل مشرق يعكس هويتها ومصالحها الوطنية.
المسألة لا تحتاج إلى عصا سحرية أو تنظير وخطابات وندوات وحواريات لتحقيق ما نحتاجه من تطور، فإذا إتبعنا بعض الخطوات البسيطة والمقدورعليها، فإننا نستطيع في بضع سنين أن نصل إلى أهدافنا المنشودة، إذ يتعين الاستثمار في تطوير بنية تحتية قوية تدعم الاقتصاد، وتمكننا من تحقيق التنمية المستدامة التي لطالما نتغنى بها ليل نهار، وهذا يتضمن تحسين البنية التحتية ووسائل النقل التي تحفظ كرامة المواطنين والقطاعات الحيوية مثل: الصحة والتعليم.
ولبناء إقتصاد قوي ينبغي تطوير اقتصاد مستقل ومتنوع يمكن الدولة من توليد موارد مالية كافية لتلبية إحتياجاتها وتحقيق التنمية، الأمر الذي يتطلب تعزيز قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات، وإستثمارها بشكل تكاملي، دون إغفال أي قطاع منها ، مع عدم التغاضي عن السياسة الخارجية المستقلة التي تحافظ على السيادة وتحقق المصالح الوطنية، وهذا يتضمن الاستقلال في اتخاذ القرارات السياسية التي تحقق مصلحتنا الوطنية.
كما يجب أن يكون هناك جدية حقيقية بالسماح للمواطنين بالمشاركة في صناعة القرارات، وتحديد مستقبلهم السياسي والاقتصادي، ما يعزز مشاركة المجتمع المحلي في تطوير الدولة، إلى جانب الإستفادة من الخبرات الإيجابية ورفض السلبيات.
مثلما يجب أن تتعلم الدول الضعيفة من تجارب الدول القوية بشكل بناء،ودون تحفظ لأي إعتبارات رجعية، مع الحفاظ على الهوية الثقافية، وعدم استنساخ أو إعتماد نماذج أخرى دون تحليل دقيق، مع التأكيد على ضرورة أن تستند هذه الجهود إلى أرضية شعبية صلبة ومتماسكة، ولها صفة الديمومة على أرض الواقع، إذ يجب على الدول الضعيفة أن تواصل التعلم والتطور والتكيف مع التحديات والمستجدات المستمرة التي يفرزها عالم متغير متسارع ،لا يملك ترف الإنتظار أو يقظة ضمير ، بل ينبذ الجمود واللامبالاة.