بدأت التساؤلات مرة أخرى حول أسباب قرار الحكومة التفاوض على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي. جزء من هذه الأسئلة استعلامي يرغب فعلا بفهم العلاقة بين الأردن والصندوق وأسباب استمرارها. أما الجزء المتبقي منها فاستنكاري يرى في استمرار البرامج مع صندوق خضوعا لمتطلبات مؤسسة غربية مسيسة تستهدف ارهاق الناس معيشيا واستنزاف ما تبقى من دخولهم المتآكلة.
واقع الأمر أن قرار الحكومة الاستمرار ببرامج الصندوق سليم وراجح. فالاقتصاد الأردني بدين عام يتجاوز ال 100% من الناتج الإجمالي يحتاج لشهادة جهة دولية مختصة ومحايدة حتى تتمكن الحكومة من تجديد قروضها الخارجية بمليارات الدولارات. فالجهات الدائنة والصناديق الاستثمارية العالمية لن تقرض اقتصادا ناميا بهذا الحجم من المديونية والتحديات المزمنة مثل اللاجئين واضطرابات المنطقة دون ضمانات لا يوفرها إلا الصندوق. ولو وافق الدائنون على ذلك جدلا، فسيكون على أسعار فائدة حادة الارتفاع تضاعف العجز والمديونية، وتزيد حاجة الحكومة لاتخاذ القرارات التقشفية.
لا ننسى أيضا أن الأردن مقبل على تحديث سياسي وتجربة حزبية فتية تزداد خلالها مخاطر السياسات الشعبوية، ولو على حساب سلامة الاقتصاد واستقراره. هذا يعني أن برامج الصندوق العابرة للحكومات ضمانة مهمة لتحصين التجربة الحزبية المقبلة من السياسات غير المحسوبة، ومنحها المصداقية والاستدامة، حتى لو تولى مواقع المسؤولية سياسيون بعيدون عن الملفات الفنية.
ولا نحتاج أكثر من النظر الى الدول المجاورة التي انسحبت من برامج الصندوق، أو رفض الصندوق التعاون معها، لنعرف حجم الكلف الاقتصادية المترتبة على فك الارتباط مع الصندوق. وربما الأصح أن نقول أننا في الأردن تفوقنا على هذه الدول بالنجاح المستمر في برامجنا مع صندوق النقد الدولي، والحفاظ على استقرارنا المالي والنقدي.
أما بالنسبة لمسألة الأجندة الغربية للصندوق، وسعيه غير المعلن لإفقار الدول والشعوب، فهذا ملف يحتاج إلى بحث موضوعي من زوايا مختلفة.
فمع صحة وجود هيمنة غربية على الصندوق، إلا أن العديد من الدلائل تفند وجود أجندة مغرضة لبرامج هذه المؤسسة الدولية. ومن ذلك أن العديد من الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية حادة لا تتعامل مع الصندوق من الأساس.
وأيضا، وكما تثبت الحالة الأردنية، لم تكن برامج الصندوق حاضرة فترة تشكل الأزمات الاقتصادية للعديد من الدول. وقد تخرجت المملكة من برنامج الصندوق عام 2004 بوضع اقتصادي ممتاز، لتبدأ المشاكل المتراكمة بعد ذلك، وصولا إلى العودة للصندوق لإنقاذ الاقتصاد عام 2012.
الصندوق أيضا يراجع سياساته ويعمل على تطويرها لتكون أكثر اتساقا مع أهداف النمو، وأكثر مراعاة للاعتبارات السياسية والاجتماعية. ولنا مثال مهم في ذلك عندما أوصى الصندوق بعدم رفع الدعم عن الخبز في الأردن عام 2018، وإصرار الحكومة على اتخاذ الخطوة بخلاف توصيته حينذاك.
كما يحسب للصندوق، وهو تحت الهيمنة الغربية، أن البدائل التمويلية الأخرى للدول الفقيرة جرت معها انهيارات اقتصادية، وإجراءات متشددة وصلت حد مصادرة أصول الاقتصادات المستدينة. فالتمويل الآسيوي لسريلانكا وباكستان والعديد من دول أفريقيا أدى إلى إفلاس بعض الدول وخسارة مرافق حيوية لديها.
ومع الإشادة بالمؤسسات المالية الأخرى متعددة الأطراف، مثل البنك الآسيوي للتنمية، والأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، والآسيوي للاستثمار بالبنية التحتية، وبنك التنمية الجديد لبريكس، الا أن دور هذه المؤسسات يتوقف عند التمويل المحدود، ولا يوفر خدمة تقييم الاقتصادات المقترضة أمام الجهات الدائنة، كما يفعل الصندوق.
بعيدا عن التحيز للصندوق أو غيره من المؤسسات الدولية، نقول أن الدول التي تلجأ للصندوق لديها الكثير من العوامل الأساسية التي تبرر حالتها الاقتصادية، والتي ما كانت لتتغير، بل لربما كانت أسوأ، لو افترضنا عدم وجود الصندوق.
وللتأكيد على عدم وجاهة أحكام الأبيض والأسود على الصندوق والمؤسسات الدولية، يمكن العودة إلى القضية التي تسببت بتجميد تقرير بيئة الأعمال الصادر عن البنك الدولي قبل أعوام، والذي تبين وجود تلاعب بنماذجه الرياضية لصالح اقتصادات ناشئة بعيدة عن المعسكر الغربي.
أخيرا نقول أن الصندوق والمؤسسات المالية الدولية تحتاج إلى إصلاحات متعددة، وتبني نهج أكثر عدالة لصالح الدول النامية والفقيرة. ومن الأدلة على أهمية الإصلاحات المطلوبة تلك الأموال التي قام الصندوق بمنحها دون مقابل لدوله الأعضاء عن طريق إصدار لحقوق السحب الخاصة عام 2021، والتي بلغت حصة الأردن منها 465 مليون دولار. فالإصدار، الذي جاء بهدف مساعدة الاقتصادات الضعيفة على امتصاص صدمة جائحة كورونا، بقيمة 650 مليار دولار، ذهب جله للدول المتقدمة والغنية!