الأردن: السير وسط الأشواك والماضي العميق
د.مهند مبيضين
16-09-2023 08:07 AM
أن تعمل في مؤسّسة عامة أو خاصة في الأردن فهذا أمر لا يعتريه فرْق أو تبدّل كبير، في كل مؤسسة للعمل وضعياته وتبعاته، وله صورته في الذهن، وثمّة مقارناتٌ تجري بين الموظفين لقيادات المؤسسات بين الماضي والحاضر، وهناك إعجاب بالماضي عموما، ونبذ للحاضر ورجاله بين الجمهور الذي يعيش كثيرًا على الماضي ويرفض النماذج الحية أو التعديل على المستقبل ومنح الفرص لظهور قادةٍ جُدد في الوزارات والمؤسّسات والهيئات والجامعات والأحزاب... إلخ.
عقودا طويلة، تولّت الدولة تحديث المجتمع، أنفقت عليه ورعته، وعاش الأردنيون أزمات بلدهم في اليُسر والعُسر، كبروا مع الدولة، واستادنوا مثلما استدانت واغتنوا حين اغتنت. استقبلوا لاجئين ونازحين ومواطنين مشاركين لهم في التعريف القانوني بعد النكسة عام 1967 باعتبار أن الأردن دخل حربا يعرف نتيجتَها مسبقا، وخسر نصف أرضه وشعبه ليقع تحت الاحتلال، وتلت ذلك موجات من اللجوء حتى العام 2011 مع الأزمة السورية.
وجد الأردنيون عند التأسيس أكثرية رجالات دولتهم الأوائل من النخبة العربية، وانعطفت الزعامات الأردنية للعمل الوطني، وأسّسوا أحزاباً مع إخوانهم العرب، وعقدوا مؤتمراً وطنياً عامّاً سنة 1928 أوضحوا فيه نبذهم الاستعمار ومعارضتهم تهويد فلسطين، ولم يجدوا في وجود النخبة العربية في صدارة مؤسّسات بلدهم ورئاسة حكوماته ضيرا، فكانوا مؤمنين بتعريف حكومتهم أنها "حكومة الشرق العربي".
توالت النخبة العربية على تأسيس الأردن وبناء مؤسّساته، وكانت لدى الأمير المؤسس عبد الله الأول دربة ومهارة فائقة في احتمال المعارضة والتعامل مع الانتداب وتقدير حاجات بلده الناشئة، وكانت أمامه دروس الأسرة في الحجاز ودمشق، ولاحقا كان درس العراق لمصير العائلة موجعا أكثر، ومن تلك النخبة التي عملت مع الأمير المؤسّس محمد بن عمر الأنسي، القادم من طرابلس، وعوني عبد الهادي وعادل أرسلان الذين تولوا رئاسة الديوان الأميري، وهم من صفوة رجال الحركة العربية وحكومة فيصل العربية، وكذلك توفيق أبو الهدى وإبراهيم هاشم وسمير الرفاعي، والثلاثة من خيرة الخبرة كموظفين من زمن الانتداب أو الحركة العربية مع جمعهم للتكوين القانوني الرفيع في مدارس دمشق وإسطنبول وباريس. ولا يُنسى الاستقلالي العربي رشيد طليع الذي عين أول رئيس للحكومتين الأردنيتين الأولى والثانية، ومظهر أرسلان صاحب ثالث حكومة، وفؤاد يوسف إسليم رئيس أركان الجيش العربي الذي ساهم بشكلٍ كبير في ضبط الأمن، وشارك في الثورة العربية ولاحقا في الثورة السورية ضد الانتداب.
وهناك نبيه العظمة الذي كان مستشارا للأمير المؤسّس عبد الله الأول وحاكما إدرايا في أكثر من مدينة أردنية، وخير الزركلي الذي شكل قيادة المعارف الأردنية التي أسّس لها معلمون كبار من دمشق وبيروت ومدن فلسطين، أمثال حسن البرقاوي وعبد القادر التنير وشوكت تفاحة وغيرهم كثر. ومن اللغويين العرب الذين أسسوا أول مجمع علمي في الأردن عام 1923 (الثاني بعد مجمع دمشق الذي أسّسه الملك فيصل الأول) رشيد بقدونس وحسن الكرمي ومحمد رضا توفيق ومصطفى الغلايني ومحمد الشريقي.
ومن رجال المعرفة الدينية لا يُغفل دور محمد الخضر الشنقيطي ومصطفى الدباغ وآخرين. وتطول قائمة النخبة العربية التي أسّست للأردن المعاصر، واستمرّت تتوالد في مختلف المؤسّسات والوزارات والحكومات بشكل طبيعي، حتى إذا جاءت الدولة لتؤردن مواقع نخبتها المتقدّمة بعد الاستقلال، وتحديدا بعد الوحدة الأردنية الفلسطينية عام 1950.
وبمنطق واضح لمفهوم أبناء الضفتين، تزامن ذلك مع بروز الخطاب القومي والنزعة القُطرية والبيانات العسكرية والوعود التقدّمية، والسعي إلى توصيف الأردن وفق ذلك الخطاب دولة رجعية أو وظيفية.
عاش الأردنيون عبر ثلاثة أجيال من قرن التأسيس والبناء والتحوّلات كل أزمة الدولة، وما زال الماضي يحضر معهم، ليجدوا أنفسهم في دولةٍ يؤسّس إداراتها رجال الحركة العربية الذين حافظوا على انتمائهم الفكري، ووجدوا في الأردن أفقا جديداً للعمل العربي، وذلك نجده في سيرة يوسف عز الدين (والد وزير الإعلام الأسبق إبراهيم عز الدين)، وهو الطبيب القريب من القصر الأميري آنذاك، ومؤسّس أحد الأحزاب الأردنية الوطنية، في لحظةٍ متزامنةٍ مع وجود عارف العارف سكرتير مجلس الوزراء بين عامي 1924-1929، المنتدب من حكومة الانتداب في فلسطين، والذي سُجن في سيبيريا سابقا، وأصدر في المعتقل صحيفة ساخرة باسم "ناقة الله"، ثم تولى رئاسة بلدية القدس وعين لاحقا وزيرا للأشغال عم 1955، وكان إبّان عمله سكرتيرا لمجلس الوزراء الأردني ورجل فكر وإدارة. ... كان أولئك رجال دولة في النهار، وفي الليل يعملون مع الحركة الوطنية ضد الانتداب في صفوف المعارضة، وكذلك الحال مع آخرين كانوا من خاصّة الأمير/ الملك المؤسّس.
كيف طوّع الأمير المؤسّس تلك الولاءات بين العربي والقبلي والوطني؟ كيف أنجز للدولة مؤسّساتها، وصنع لها عنصر الاستمرارية والبقاء في ظل جوارٍ كان يتعطّش لإنهاء حكمه ومملكته. وكيف عملت الحركة الوطنية التي ضمّت زعامات البلاد، أمثال مثقال الفايز وعودة أبو تايه وحسين الطراونه وغيرهم على إنقاذ الأردن من تلك المرحلة الحرجة؟.
لقد أمّن الملك المؤسّس استدامه كبيرة للدولة الناشئة، فهو لم يمت موتًا طبيعيًا، بل استشهد على أبواب القدس، وكان يتعامل مع خصوم من رموز الفكر السياسي الفلسطيني أو المرتبطين بأنظمة عربية منافسة، وحافظ على علاقة وطيدة مع الأعيان الفلسطينيين والزعامات المحلية. ولأنه أرسى دعائم مُلك ومؤسّسات، وطوّر مجتمعا واهتمّ بالتعليم كما اهتم خلفاؤه من بعده. بقيت الدولة واستمرّت.
وكان لعامل المعرفة والتعليم الذي أولاه الملك طلال جلّ الاهتمام ودستره بالقانون، ثم جاءت الثورة المعرفية الكبرى في عهد الملك حسين في منتصف الخمسينيات، لتتمدّد وتصبح متصلة بالعالم الخارجي بشكل أكبر في حقبة الملك عبد الله الثاني، ليبقى الأردن متقدّمًا متجدّدًا، وليبقى الأردنيون بدون تواضع كبير في مناقشة ما يمسّ شؤونهم العامة، وفي مقياسهم لجودة الحياة وفي إنفاقهم على التعليم والكرم، وغير ذلك من تدابير الحياة، مع الإبقاء على نزعتهم العروبية. واليوم هم يتعاملون مع إرث عميق، وتجربة مثيرة لاهتمام الباحثين في بقاء دولةٍ مستمرّة بدون انعطافات سياسية، وسط إقليم ملتهب، ويؤسّسون لمستقبل جديد في السياسة والاقتصاد والتحديث الإداري، مع اعترافٍ واضحٍ بأن هناك تجارب وقرارات خاطئة حدثت سابقاً، ولا يمكن البقاء تحت وطأة مؤثّراتها.
كان العام 1988 مهماً وصعباً، فهو عام قرار فك الارتباط بين الضفتين، أي ارتباط الزمن الأردني الفلسطيني المحصّن بالنسيج الاجتماعي والمتداخل مع ضفتي البلد، وهو المستمر. وكان البلد في ظلال أزمة اقتصادية حرجة أدّت لاحقا لاضطرابات ما سمّيت هبّة نيسان/ إبريل 1989 التي تلتها استدارة ذكية من الملك الحسين نحو الداخل وتلبيه الخيار الديمقراطي الذي سرعان ما تعثر بعد العام 1993 والذي استمر حتى العام 1997. ولم تغب محاولات تجاوز عُقد ذلك النظام حتى جاء العام 2022 بصدور القانون الجديد للانتخاب، والذي يؤسّس لبرلمانٍ بأكثريةٍ حزبيةٍ وبشكل متدرّج عشر سنوات.
لم تكن الدولة الأردنية بعيدة عن التعثر أو التحدّيات في مسيرتها العامة، ولا اتهامات العرب لها، لكنها مارست دوراً مهماً في التنمية ومشاريع البناء منذ ستينيات القرن العشرين، حيث أشرف الأمير الحسن بن طلال على تلك الخطط عقودا، واهتم الأردن ببناء مؤسّسات وإنتاج المعرفة وتعزيز قيمة التنوّع، واليوم تستمرّ المسيرة. وقد عقدت الحكومة الأردنية أخيرا ملتقًى لمراجعة مسيرة الإنجاز في التحديث الثلاثي (السياسي والاقتصادي والإداري) قدّم فيه رئيس الحكومة بشر الخصاونة الرؤية العامة، معترفا بالتحدّيات والتأخر، كما جاء على الإنجاز، مع الإقرار بأن الأردن يجب أن يكون في المستقبل أفضل مما هو عليه.
نشأ الخصاونة الممتلئ بالثقافة القانونية والدبلوماسي ومدير مكتب الملك سابقا في بيت سياسي، فهو نجل الوزير القومي هاني الخصاونة، الذي شارك حكومات أحمد عبيدات وزيد الرفاعي في أكثر من حقيبة، والسيرة هنا لنجله رئيس الحكومة مثل سير أردنية أخرى بقيت محافظة على وجودها في الطبقة العليا للنخبة السياسية الأردنية التي آمنت بالأردن، ولم يعترِ انتماءها القومي تغير أو تبدّل.
وتستحقّ السيَر والنخب الأردنية منذ تأسيس الدولة دراسة وفحصا، لتجد فيها العروبي والإسلاموي والليبرالي واليساري الاشتراكي، وتلك ثيمة خاصة بالأردن الذي طوّع كل مصادر القوة في نخبته، لإنجاز مساره العام في الاستقرار السياسي، حتى مع الذين حاولوا الانقلاب على الحكم أو الذين كانوا يتلقّون تعليمات من خارج الأردن، كما أشار إلى ذلك الوزير والسفير والعين الراحل أكرم زعيتر في يومياته.
صحيحٌ أن السيْر في طريق ممتلئ بالأشواك صعب كان عنوان مسيرة المئوية الأولى من تاريخ الدولة الأردنية، لكن الأردن كان طوال عقود يتلمّس تجنّب كل الهفوات والخيارات الصعبة، وأن لا يطأ فوق الأشواك التي كانت مرشّحة لإصابته كي لا يكسرها، أو تنكسر في جسمه، فيصعب نزعها، كما أنه دفع ثمنا كبيرا لمواقفه في حرب الخليج الثانية وغيرها، وكان أولها قرار وحدة الضفتين التي رفضها العرب، ثم رفض العرب تحذيرات الملك حسين من النكسة ولم يصدّقوه، ثم جاء قرار قمّة الرباط عام 1974، اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهو حين يريد التحديث اليوم أمامه دروس كثيرة وآفاق جديدة وقوّة معرفية متينة ونسيج اجتماعي متعلم ومستقر ومؤمن بقدرات نخبه. ولكن أيضا هناك ماضٍ طاغٍ يعيش البعض فيه ويأبى مغادرته.