سياسات التعليم هل نخضعها للشعبوية؟
النائب الاسبق د. بسام البطوش
12-09-2023 12:00 PM
فتح قرار تخفيض عدد المقاعد المخصصة لكليات الطب في القبول الموحّد المجال للتساؤل حول قدرة الحكومات على اتخاذ القرارات ورسم السياسات بعيداً عن ضغط الرأي العام وأصحاب المصالح والخطاب الشعبوي.
قد يقول قائل، نعم للقرار، ولكن، حبذا لو جاء متدرجاً، (وقد تم تدريجه لاحقاً)، وقد يقول آخر إنه جاء لمصلحة الجامعات الطبية الأردنية الخاصة حديثة التأسيس، وقد يقول مختص إنه جاء لتجويد التعليم في كليات الطب ولتحقيق معايير الاعتماد وضبط الجودة والطاقات الاستيعابية، وقد يقول آخر الدافع هو أزمة البطالة الحالية والمتفاقمة مستقبلاً في تخصص الطب، لكن في قلب هذا الجدل الصحي يجب أن لا يغيب عن بالنا الحاجة الماسّة لعمليات جراحية كبرى في قطاع التعليم العام والعالي، وأنه ليس من المقبول أن نبقى جامدين أمام ما يجري- وما يجري خطير ويمسّ مستقبلنا- على صعيد تراجع نوعية التعليم وجودة مخرجاته، وعلى صعيد الفجوة بين هذه المخرجات ومتطلبات سوق العمل واحتياجاته، وعلى صعيد ما يجري من تحوّل الجامعات إلى منصات لإنتاج البطالة وبالتالي الفقر والإحباط عبر ضخ ما يقارب 70 ألف خريج من الجامعات الوطنية، في تخصصات لم تعد مطلوبة بشكله ومحتواها الحاليين، أو لم تعد مواكبة للتحديث الجاري في العالم في البرامج والخطط الدراسية، كما لم تعد مواكبة للتحولات الهائلة والمفصليّة في أسواق العمل المحلية والإقليمية، وما تفرضه الثورة الصناعية الخامسة الرقمية واستحقاقاتها!
في الأحوال جميعها، لم يعد مقبولاً أن نفقد قدرتنا على المبادرة ومواجهة التردي المتسارع في التعليم، في بلد بُنيت قصة تنميته وتقدّمه على التعليم، وعلى الموارد البشرية، وعلى تميّزه فيهما. بلد قاد التنمية في الإقليم وساهم عبر ما يصدّره من كفاءات وعقول في بناء الإدارة والتعليم والقطاعات المدنية والعسكرية والأمنية والإعلامية والاقتصادية، في دول عدّة في الإقليم، باتت اليوم تسجّل نجاحات كبيرة وتحقق إنجازات نوعية في التنمية الشاملة، وبتنا نتطلع للتأسي بها!
يا سادة، ويا سيدات، لم نعد نمتلك ترف الانتظار لسنوات طويلة، حتى نجروء على فتح ملفات التعليم بكل جراحاتها المؤلمة، الآن الآن وليس غداً. ولم نعد نملك ترف الإنفاق على جامعات لم تعد قادرة على إدارة نفسها، وتمويل ذاتها وحل مشكلاتها! جامعات لم تعد قادرة على أداء مهامها الرئيسة المتمثلة في التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع.
لم يعد خافياً اليوم أن جامعات كثيرة خرجت من العمل فعلياً منذ سنوات، وقتلها الترهل والبيروقراطية والمديونية والرضوخ للضغوط المجتمعية. ولم يعد خافياً أن الجامعات الرسمية باتت تشكّل نزيفاً في الشريان الحيوي للتنمية الوطنية! في وقت فقدت فيه قدرتها على تحديث نفسها، فكيف لها أن تساهم في تحديث المجتمع والدولة؟ في وقت لم تعد قادرة فيه على التعامل مع الريادة والابتكار أو تقديم منتج بحثي علمي قادر على معالجة التحديات المتنوعة التي يواجهها وطننا على صُعد الاقتصاد والمالية والمديوينة والتعليم والمياه والطاقة والتعدين والنقل والصحة والزراعة والغذاء والفقر والجريمة! وفي وقت تحوّلت فيه الجامعات من منارات للتنوير إلى منشآت معزولة عن حركة المجتمع والحياة، تقبع خلف أسوارها المدججة بالأسلاك الشائكة والكاميرات المرئية وغير المرئية! فلا تواصل فعّال مع مجتمعاتها، ولا مبادرات تنموية رائدة تلامس مشكلات المجتمع التنموية والخدمية وتخفف من وطأتها! بالعربي، لم تعد الجامعات معنيّة أو مهتمة بقيادة التنوير والتحديث في مجتمعاتها، بل باتت خاضعة لضغوط المجتمع واشتراطاته، وتشكّل جزءاً من المشكلة الاجتماعية وتعقيداتها بدلاً من تفكيكها وفهما ومعالجتها!
حقيقة، لم يعد بالإمكان تجاهل الحاجة لإعادة النظر الشمولية في الجامعات الخاصة، وقبل ذلك في معايير الترخيص والاعتماد وضبط الجودة. جيد أنها استثمارات وطنية تحمل أعباء عن الدولة، وتدفع ضرائب، وتشغّل أردنيين، وتوفر بديلاً عن السفر للخارج طلباً للشهادات، وتستقطب طلبة من الخارج، هذا كله جيد، لكن لا يجوز أن تكون معايير الربح المالي وحدها هي المتحكّمة في سياساتها وإداراتها، ولم يعد بالإمكان أن تُترك وشأنها فيما يتعلق باستحداث التخصصات، وفي الخطط الدراسية، وفي الطاقات الاستيعابية، وفي الاستمرار في توليد البطالة، ومواصلة تخريج شباب بعقلية موظفين يبحثون عن وظيفة والسلام، وتشاركها الجامعات الرسمية بفعالية في هذا، والاكتفاء بإلقاء اللوم على الدولة بأنها عاجزة عن توفير فرص عمل لخريجين لم يؤهلوا بمستوى جيد من التعليم النوعي المواكب لاحتياجات سوق العمل والحياة!
سيداتي ، وسادتي، ليس من المقبول الصمت ودفن الرؤوس في الرمال، ونحن نعلم أن كليات في جامعاتنا ينبغي الوقوف اليوم على مبرر وجودها شكلاً ومضموناً، كما أن تخصصات وأقسام أكاديمية ما فتئت تعتاش على خطط دراسية عفا عليها الزمن، وأصبحت شكلاً من أشكال الماضي! فهل يُعقل أن خططاً دراسية وضعت في السبعينيات من القرن الماضي ما زالت على حالها لم تلمسها يد التطوير؟ وهل يُعقل أن يُمضي الطالب أربع سنوات في الجامعة أو أكثر، ليكتشف بعد تخرجه، أن كثيراً من المعارف والمهارات اللغوية والرقمية والحياتية والأساسية في تخصصه - لا يستقيم دخوله لسوق العمل بدونها - لم تكن مدرجة في خطته الدراسية؟ وأنه ملزم بعد التخرّج بتعويض ما فاته عبر دفع مبالغ طائلة لدورات مهنية أساسية في تخصصه ومجاله؟ فأين كانت الخطط من هذه الاحتياجات الأساسية؟ وهل يُعقل أن يكتشف الأب والأم أن أبنائهم يدرسون نفس الكراسات التي درسوها قبل عقود؟! وهل يُعقل أن يكتشف الطالب أن جامعته كانت منقطعة عن سوق العمل فلم تضمّن خططها المتطلبات المعرفية والمهارية المطلوبة، ولم تكلّف نفسها ولم يكلفها أحد أن تدرس احتياجات سوق العمل! كما لم تُضمّن خططها الدراسية التدريب العملي الحقيقي والفعلي والكافي؟! وهل يُعقل -على سبيل المثال لا الحصر- أن يتخرّج الطالب في كليات الحقوق دون أن يصل لقاعات المحاكم ويرى ما يجري في عالمها الآخر، ودون أن يُمضي عاماً تدريبياً حقيقياً في أروقتها؟! وهل يُعقل أن يتخرّج طالب كلية الزراعة والهندسة والمعلوماتية وعلم الاجتماع وعلم النفس والمالية والمصارف دون أن ُيمارس عملياً ما يتعلمه من الدوسيهات؟! وهل يُعقل أن يكتشف طالب المحاسبة أن هناك علوماً ومهارات أخرى ينشدها صاحب العمل لم توفرها له الدوسيهات أيضاً؟! والأمثلة تترى!!
وهل يعقل أن أحداً لم يفكّر في تجميد القبول في كليات برمتها، أو في تخصصات بالمئات ولسنوات، ريثما تستعد لجولة أخرى من القبول على أسس عصرية وبخطط دراسية مبتكرة؟! وقد يًطرح سؤال: ما مصير هيئاتها التدريسية؟ في وقت لم يعد مقبولاً فيه أن يبقى أكثر من 12 ألف مدرس جامعي في عزلة عن تحديات الحياة، وعن مؤسسات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني! فمن هو اليوم الذي يسعى للإفادة في الاستشارات والتدريب والدراسات من هذه العقول ومن المعارف والمهارات والخبرات والتجارب التي تملكها لمواجهة مشكلاتنا وأزماتنا؟!
العملية الجراحية الأولية والبسيطة التي أشعلت أزمة مقاعد الطب، يجب أن تتبعها عمليات جراحية كبرى لإعادة النظر في سياسات التعليم العام والعالي وتشريعاته ومؤسساته وإداراته وحاكميته ومجالسه، وأن تتبعها عمليات جراحية عميقة في التعليم المهني وفي التعليم التقني وفي المناهج وفي هيئة الاعتماد وفي الجامعات وفي وزارة التربية وفي مجلس التربية وفي هيئة المهارات وفي التعليم الخاص وفي إدارات التربية ومديرياتها وفي المدارس والجامعات. فهل يقتنع أحد اليوم بأن مجالس الحاكمية في الجامعات تعمل؟ وتعمل بشكل مقبول؟ فهل مجالس الأقسام والكليات والعمداء والجامعة والأمناء تعمل؟ وتعمل بشكل فعّال؟ وهل تشارك حقيقة في إدارة الجامعات؟ وهل تعرف ما المطلوب منها؟ وإلى أين تسير؟ وهل تعي حجم التحديات وحجم العمل المطلوب؟!
في قصة العمليات الجراحية الكبرى نحتاج إرادة قوية وإدارة قوية وصمّ للآذان عن أصوات التثبيط، وأصحاب المصالح الضيقة، وذوي النظرات القاصرة، وأن نتطلع إلى المستقبل ونقوم بمسؤولياتنا نحو أجيال قادمة ستسألنا ماذا فعلتم؟