الصين وحوافز جذب الاستثمار المباشر
د . خالد الوزني
11-09-2023 10:03 AM
أشار مقال مطوَّل صدر في النسخة الدولية لصحيفة النيويورك تايمز The New York Times International Edition منذ عدة أيام إلى قيام الصين قريباً بإغراق العالم بالسيارات التي تستخدم الطاقة الكهربائية، وجاءت الإشارة هنا إلى أنَّ السبب الرئيس وراء ذلك الفيضان بالمركبات الكهربائية الصينية يرجع إلى قضيتين رئيسيتين؛ الأولى هي توافر المادة الخام الأساسية لصناعة السيارات، وخاصة الحديد والإلكترونيات المطلوبة لصناعتها، بأسعار منخفضة للغاية، وبكميات كبيرة، إضافةً إلى توافر الأيدي العاملة الرخيصة، والتقنيات المُحمّلة بمواصفات وتقنيات عالية الجودة، وبتطبيقات ذكية متميزة تضاهي أكثر الإضافات العالمية المُغرية في عالم قيادة المركبات اليوم.
والقضية الثانية تتمثَّل في تقديم حوافز نوعية للمستثمرين في قطاع السيارات، بعيداً عن حوافز الضرائب أو الإعفاءات الضريبة.
ولعلَّ القضية أو العامل الأخير، أو ما يمكن تسميته الحوافز النوعية التنافسية، هي السبب الحقيقي نحو قيام كبرى الماركات العالمية بفتح مصانع كبيرة في الصين لتصنيع سيارات كهربائية تغزو بها العالم، بما فيها بلدانها الأصلية، إلى الدرجة التي جعلت هذه الصناعة هي الرقم الصعب أمام صنّاع المركبات في العالم، وخاصة أوروبا، حيث باتت السيارات الصينية الكهربائية تشكِّل نحو 40% من السوق الصيني، الذي شهد خلال النصف الأول من هذا العام زيادة في صادراته من السيارات تجاوزت 86% عن العام المنصرم، لتكون الصادارت الوحيدة تقريباً التي ارتفعت هذا العام، مقابل انخفاض نسبي بنحو 5% من إجمالي رقم الصادارت الصينية لهذا العام حتى الآن.
الشاهد ممّا سبق أنَّ الدول التي تسعى إلى جذب استثمارات خارجية حقيقية عليها أن تُركِّز بشكلٍ أساسيٍّ على وضع أولوياتها من تلك الاستثمارات، بحيث تجذب إليها الاستثمارات الحقيقية التي يمكن أن تستغل الموارد الرئيسية المتوافرة لدى تلك الدولة بوفرة وبميزة تنافسية عن غيرها من الدول، وتقدِّم لها الحوافز التي تجعلها تستخدم هذه الموارد، أي توظِّفها، بما يؤدي إلى تحقيق وإصابة أهداف عدة بحجر واحد، ولعلَّ أهمَّ تلك الأهداف: توظيف الموارد- المادية أو البشرية- المعطّلة، وتحقيق نموٍّ حقيقيٍّ، وتكوين احتياطيات أجنبية مستدامة تدعم العملة، وتسهم في الاستقرار النقدي، وتحقِّق فوائض للموازنة العامة، تسهم في سداد المديونية الخارجية إن وُجِدَت. الدول التي لديها موارد معطَّلة، معدنية، طبيعية، زراعية، بشرية، أو حتى علمية، يجب عليها القيام بخطوات فعّالة حقيقية نحو توفير المناخ الاستثماري المناسب لجذب وتحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي للولوج إلى تلك الموارد لاستغلالها، واستخدامها في الإنتاج، وبالتالي في تحقيق النمو، والتنمية المناطقية، وتوفير الاحتياطيات الأجنبية، وصولاً إلى استقرار نقدي مستدام.
وقد أشار المقال السابق ذكره إلى أنَّ أهمَّ الحوافز النوعية التنافسية التي وفَّرتها الصين للصناعات الكبرى في مجال السيارات تتمثِّل في تخصيص مساحات من الأراضي بسعر رمزي، يكاد يكون مجانياً، شريطة البدء ببناء المصانع والإنتاج فوراً، وقد يكون ذلك التخصيص عبر تأجير الأراضي بأسعار رمزية، دون الحاجة إلى بيع الأراضي للمستثمرين، مع ضرورة الإلتزام بالغاية من التخصيص، وهي الاستثمار في المجال المحدَّد حصراً، ومن الحوافز أيضاً تقديم قروض بفائدة صفرية، أو قريبة من ذلك لغايات البدء بالانتاج، والتشغيل في المجال المحدَّد، وهي حوافز تفتح شهية المستثمر الجاد في القدوم إلى الدولة ودراسة إمكانية التوسُّع في استثماراته خارج موطنه الأصلي، وهو ما حدث مع العديد من الماركات العالمية في السيارات، من أوروبا، وأمريكا الشمالية، وغيرهما.
والمحصلة هنا أنه ينبغي للدول أن تضع أولوياتها التنموية، وتعلم أهمَّ مواردها التي تحتاج إلى توظيف، ثمَّ تُقدِّم الحوافز النوعية التنافسية للمستثمرين الراغبين في توظيف تلك الموارد، ومن الحوافز النوعية المعروفة في هذا المجال: تقديم الأراضي- عبر تأجير طويل الأمد- حتى لا تتحوَّل إلى متاجرة، وتقديم القروض القطاعية الموجَّهة إلى القطاعات المستهدفة، صناعية، زراعية، أو خدمية، وتوفير العمالة المدرَّبة، أو المساهمة في بعض تكاليف العمالة، مثل دفع التأمينات الاجتماعية، جزئياً أو كلياً، لفترة محدَّدة، أو تحمُّل كلفة تدريب الطاقات البشرية المطلوبة، أو المساهمة جزئياً في الرواتب المستهدفة، أو المساهمة ببعض الكلف المباشرة في التصنيع، كلياً أو جزئياً، مثل تكاليف الطاقة، أو المياه، أو الأسمدة، أو التقنيات. وختاماً فإنَّ توافر المعادن، والمواد الخام، مثل السليكا، والنحاس، والمنغنيز والفوسفات، والزركون، والترافرتين بات منتشراً في كثير من دول العالم، وخاصة على المستوى الإقليمي للدول، وهو ما يتطلَّب توفير حوافز نوعية وتنافسية للمستثمرين، محليين وخارجيين، شريطة أن ترتبط تلك الحوافز بتحقيق استثمار حقيقي في الموارد الفائضة، أو المعطَّلة وخاصة البشرية منها، وتؤدي إلى الاهتمام بقضايا تنمية المناطق التي تظهر فيها تلك المواد الخام، بما يحقِّق عوائد حقيقية لتلك المجتمعات.
الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
khwazani@gmail.com