معصرة الزيت .. تابوت سعود .. الاحتلال
أحمد سلامة
10-09-2023 07:39 PM
الحلقة الثالثة
انتهينا من السياسة، غادر الدكتور رفعت عودة إلى الجزائر ممثلا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وآلت امور عشيرتنا وبلدتنا إلى المحامي التنموي العم مصطفى عودة، حيث باشر حملة تحديثية في البلدة، نافضا عن روحها غبار الوجوم بمشروعه المستقبلي المدهش
الذي نقل بقرار تاريخي عصر الزيتون من عصر (البد / الحجري) الى (عصر الميكنة الطليانية) وافتتحت اضخم معصرة في المنطقة وذبحت عشرات الخراف، وطبخت اكلة (الثريد بمرق البندورة) الاكلة الشعبية في سفوح الجبال الغربية لنابلس والتي تقدم في الاعراس والافراح الباذخة اي ما يوازي المنسف في الضفة الشرقية.. نحن ليس في مطبخنا (اللبن) لان منطقتنا تخلو على العموم من المرعى فهي غابة زيتون ممتدة بضراوة في اعماق التاريخ البهي لتلك الاصقاع لذا فالحلال ان وجد يكون محدود العدد، باستثناء قطيع الختيار الكريم (ابو فايز ابو سيف) الذي فاض قطيعه عن المئتي رأس غنم اسمر…
كانت المعصرة أول المعجزات التنموية وتبعها كل ما يوجب تحويل القرية إلى بلدة نموذجية عرفت الكهرباء بمحدودية قبل الاحتلال بقليل، كذلك رصفت الشوارع بتبرع سخي من الاتحاد اللوثري، كذلك استكملت المدرستان بنين وبنات حتى نهاية المرحلة الثانوية… ودخلت البلدة طورا جديدا في حياتها وتمت تسوية كافة الاشكالات التاريخية التي حملتها سوء ادارة الامور الحياتية وتم تتويج المصالحة التاريخية بين القبيلتين آل سلامة وآل طه حين الح المحامي مصطفى عودة على خاله المهندس الزراعي الذي تخرج من مونبلييه الفرنسية عام ١٩٢٧ فريد محمد سعيد طه رحمه الله لتزويجه المعلمة الفاضلة كريمته اسمى رحمها الله، وكان ذلك الزواج بوابة الحب التي فتحت كل بديا على التسامح والطيب حتى ان رابطة آل سلامة الجامعة في الرصيفة قد تم البدء التفكير بها وتأسيسها في بيت المهندس النبيل (اسامة فريد طه) ومن شبه اباه ما ظلم
عكر صفو البلدة احدى عوائد هجرة الشباب من بديا الى الكويت منذ مطلع الستينات. ولست ادري حتى الان لم كانت تلك الهجرة من شباب يمتلك اباؤهم مئات الدونمات والانتاج متاح لهم لكن فكرة النقد والراتب الشهري ورغبة الشباب في التحرر كانت احدى هذه العوامل للرحيل المبكر الى سوق الكويت اولا
على حواف سنة ١٩٦٥ وقع اول حدث مجلجل هز وجدان بديا وزعزع روحها.. فجعت بديا بوصول اول تابوت تراه في حياتها لاوسم الشباب ومن اكثرهم خلقا (سعود عبد المنان) رحمه الله الذي ذهب للكويت ملء السمع والبصر وعاد بصندوق خشبي على رأي احد جسوري البلدة (كيف الملائكة بدها تسأله وهو جوا التابوت ؟!!؟)..
كان منظرا رهيبا لحظة وصول التابوت والموت المدجج بالخشب لا يقنع بالحزن فالموت يحتاج الى معايشة مثل الحياة تماما.. ليكون مقنعا ويصير الحزن بطابع عام…
وعبد المنان، هذا الاسم الغريب في اختيار هذه العبودية لهذه الصفة الالهية (المنان) هو أن جده عبدالله الدلو كان احد خريجي الازهر في ثمانينيات القرن الثامن عشر… هو (والحاج محمد آل سليمان والشيخ محمود العساف) كانوا هؤلاء مدرسة التكوين الاولى الازهرية في بديا.. وابو ابراهيم عبد المنان كان رجلا موسرا ولماذا ذهب سعود للكويت وهو عريس لم يكن له من الذرية سوى ابنتين،
وصول النعش ذات ضحى لـ بديا ترك وجوما ظلت اثاره حتى التقى مع ذهول الناس من احتلال بلادهم بعد سنتين…
كان النعش الصامت قد انطق (مجنون البلدة اعمر القلم) بما اوحى ان جنونه مفتعلا.. حين وصل الى المصطبة المسجى عليها النعش وهو صابغ لشاربيه بكحلة ضارية في السواد وعلى حين فاجأ كل الحضور من حول النعش تقدم وبسط اصابعه الخمسة (وضرب على النعش باقصى قوته) وخاطب من يتمدد في داخله قائلا على هيئة صراخ!!!
(قم.. وكررها ثلاثا، يا سعود في حد بترك بلده وبتخيل حاله يظل عايش انت مجنون. بلكي تعلم غيرك).. واطلق ساقيه للريح بعنجهية الحكيم وليس بهيئة الفاقد لعقله…
وظلت بديا مشغولة في الذي قاله (اعمر) بذات الحزن الذي خيم على الجميع.
كانت ام القتيل العائد في تابوته مدنية من مدينة نابلس، محشومة سيدة فاضلة علمت اهل بديا اكل الكلاج والتمرية وصناعتهما منزليا وكانت خياطة وكريمة…
رأيتها ذات صبح قد تسربت إلى قبر سعود في المقبرة المجاورة لمنزل ابي ومنزلهم، تحمل أبريق ماء تصب منه على قبر سعود وتحمل المصحف وتقرا له.. ذهبت اليها وقبلت يدها كانت تودني كاني حفيدها.. رأيت في عينيها حزنا ودمعا كان يفوق قدرتي على تجنب سؤالها (لما كل هذا الحزن يا سيتي) !؟
لم تجبني كانت تحكي مع حالها (اليوم دخلة ابراهيم على مرت اخوه) وصار بكاؤها نحيبا، كان ابراهيم الاخ الغائب في امريكا منذ سنوات كثيرة لدرجة ان البلدة نسيته في فنزويلا !!! ولما مات سعود حضر لمواساة والده ووالدته فاخذ محصول الزيت الوفير وتكتب على زوجة اخيه ومن ثم غادر البلدة قافلا الى غربته من جديد…
كانت اخوته محزنة كدت ان اقول معيبة.. ومن ذلك التصرف الذي كان مشينا في نظري كفتى يافع عرفت سعود ولم اعرف انانية ذلك الاخ الذي باع دارة اهله وسجل الدارة الجديدة باسمه واستولى على الميراث لانه اضحى وحيدا كرجل، ذلك التصرف قد اورثني نظرة احتقارية لكل مثيل له ولا اعول على موقف احد يسلك ذات السلوك …
كان التابوت وسلوك الاخ المشين وحزن الوالدة المكبوت وحكمة المحنون الطريد عن الغربة قد مهدت النفس للاحتلال اذ ذهبت وعود عبد الناصر رحمه الله في تغطية الضفتين بمئات الطائرات وكل المتحمسين للناصرية وراحوا بعيدا ينادون بانفصال الضفتين عن بعضهما، قد تحقق لهم ما ارادوا لكن ليس باستقلال منجز بل باحتلال بغيض انقض على كل عروبة فلسطين
يتبع في الحلقة الرابعة