العلمانية مصدر العنصرية في تركيا
داود عمر داود
09-09-2023 12:26 PM
معروف أن الإسلام حارب الجاهلية بكافة أشكالها، من عنصرية، وكراهية، وطبقية، وعصبية قبلية، وطائفية، ونزاعات دينية، وأية فوارق اخرى مصطنعة بين بني البشر، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم. وحض على المساواة بين الناس، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
وقد تم تحصين المجتمعات الإسلامية، منذ صَدْر الإسلام، ضد هذه الآفات الاجتماعية الخطيرة، بما فيها المجتمع العثماني، في ظل آخر دولة إسلامية كبرى، حكمت المشارق والمغارب لستة قرون متتالية. فتمت المحافظة على الفضائل وقيم العدالة والمساواة بين الناس كافة، ولم تشهد الحياة في ظلها أي ضربٍ من ضروب التفرقة والتمييز العنصري.
الوثائق العثمانية خير دليل:
ومن سنحت له فرصة الإطلاع على وثائق المحاكم الشرعية العثمانية يلمس، بما لا يدع مجالاً للشك، كيف سادت العدالة والمساوة، بين جميع مكونات المجتمع. فتجد في مطلع كل وثيقة عبارة دارجة آنذاك تبين ديانة الشخص الماثل أمام القاضي برقي ولطف، تقول (حضر مجلسنا الشرعي الرجل البالغ العاقل العثماني فلان ابن فلان)، وهذه للمسلم. أما غير المسلم فله عبارة اخرى تقول (حضر مجلسنا الشرعي الرجل البالغ العاقل الرومي فلان ابن فلان). فكان يُعامل المسلم وغير المسلم بنفس الطريقة.
تيار ديني قائم وتيار علماني قادم:
لكن بعد أن اعترى الدولة العثمانية الضعف، واضطربت أحوالها، وأصبحت تُلقب بـ "الرجل المريض"، وشهدت تراجعاً بطيئاً طويل الأمد، تغلغلت خلاله العلمانية، في جسم الدولة والمجتمع. العلمانية القائمة على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وهو ما يتعارض مع مبادىء الإسلام التي قامت على أساسها الدولة العثمانية. وفي آخر أيامها، تنامى التيار العلماني مما أحدث انقساماً حاداً، بين التيار الديني القائم، وبين التيار العلماني القادم.
"الأتراك البيض" و"الأتراك السود":
وقد نتج عن هذا الانقسام الفكري ظهور العنصرية في المجتمع التركي. فأصبح كل من ينتمون إلى التيار العلماني يوصفون بأنهم "أتراك بيض"، ومن ينتمون إلى التيار الإسلامي يوصفون بأنهم "أتراك سود"، رغم أن الجميع هم من أصحاب البشرة البيضاء، ومن ذات القومية.
وهكذا ظهرت العنصرية لأول مرة في المجتمع التركي مع تولي العلمانيين مقاليد السلطة وقيام جمهورية أتاتورك، عام 1923. فانشطر المجتمع، بعد إلغاء دولة الخلافة، الى "بيض" و"سود"، وأصبح هذا الانقسام جزءاً لا يتجزأ من السياسة التركية، التي أصبحت قائمة على التناقض بين الإسلام والعلمانية، وما زالت لغاية الآن.
أردوغان فخور بأنه من الأتراك السود:
منذ بداية عهده في الحكم أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه ينتمي لـ "الأتراك السود". وصرح عام 2002 بأن المسلمين الملتزمين هم "سود تركيا". ووصف نفسه في مناسبات مختلفة بأنه "تركي أسود". وذات مرة تحدث أمام جمهور كبير من مؤيديه قائلاً: "إن الأتراك البيض يصفونكم ويصفوننا بأننا زنوج أتراك، وأنا فخور بأنني زنجي تركي".
مواطنون من الدرجة الثانية:
المعادلة الاجتماعية في تركيا، منذ مئة عام، تقوم على ظاهرة العنصرية ضد كل مسلم ملتزم بدينه الذي تعتبره النخب العلمانية، المنتمية للغرب، مواطناً من الدرجة الثانية. وهذه ظاهرة لا تقوم على أساس اللون أو العرق وإنما على الأساس الثقافي والاجتماعي ضد جميع مكونات الشعب التركي الملتزمة بالإسلام، والتي كانت، حتى قبل ربع قرن، تعاني من التهميش والتحيز والتمييز والفوقية، وتتعرض للاحتقار والازدراء من قبل العلمانيين. تماماً كمعاملة بيض أمريكا للسود، وكمعاملة الحكومة العنصرية في جنوب افريقيا لمواطنيها السود، وكمعاملة العدو الإسرائيلي لأهل فلسطين.
وفي جميع هذه الحالات نجد الفئة الأقوى تستحوذ على السلطة وعلى الثروة، وترى أن هذا من حقها، وهي تتعامل مع الفئة الأضعف باستعلاء واحتقار.
مواصفات "الأتراك البيض":
ويحاول "بيض تركيا" العلمانيون تمييز أنفسهم عن بقية المجتمع المسلم في كل شيء، من نمط الحياة، إلى طريقة الكلام، ويرون في أنفسهم جزءاً من أوروبا، وهم مرتبطون بالغرب من ناحية معنوية ومن ناحية المصالح. ويرون أنهم أرقى من غيرهم، وأن سواهم عبارة عن رعاع. كما أن العلمانيين يدعمون الجيش، وحكم العسكر، ويقبلون بتبعية البلاد للغرب، ودورانها في فلكه.
ثورة أردوغان وعودة التوازن:
لكن التطور السياسي في العقدين الأخيرين أتاح للمجتمع المسلم في تركيا، "سود تركيا"، منافسة العلمانيين على السلطة والثروة. ويعود ذلك لما يوصف بـ "الثورة الصامتة" التي قادها أردوغان، وفتح من خلالها الأبواب أمام التيار المسلم العريض ليتولى السلطة ويقتسم الثروة مع العلمانيين. كما أوصل خدمات الدولة إلى كل أرجاء تركيا، بعد أن كانت تقتصر على أحياء "البيض" في المدن. وهكذا فإن التوازن الحالي الذي فرضته ثورة أردوغان، بين "الأتراك البيض" و"الأتراك السود"، أدى إلى كسر احتكار العلمانيين للحكم ولاستحواذهم على ثروة البلاد.
خلاصة القول: فليصبح تلاقينا بديلاً عن تجافينا:
هذه العنصرية بين الأتراك أنفسهم هي "أعمق جذوراً وأشد رسوخا" من العنصرية التي أثارتها المعارضة التركية العلمانية مؤخراً، ضد العرب والأفارقة والأفغان، وعموم اللاجئين في تركيا. لقد استهدف العلمانيون، بالدرجة الأولى، من حملتهم العنصرية، إضعاف حكم أردوغان حتى لا يصل إلى هدفه المنشود في أسلمة الدولة والمجتمع. إضافة إلى أنهم يستهدفون إحياء الشرخ التاريخي بين الأتراك ومحيطهم العربي الإسلامي، وذلك بعد أن جعل أردوغان "التقارب" هو عنوان المرحلة، حيث وصلت العلاقات بين الجانبين مدىً متقدماً أغاظ الغرب ومعه العلمانية التركية.
وما يزيد هؤلاء غيظاً عدم التفات عموم الأتراك إلى مروجي الفتن والكراهية، بين أبناء الأمة الواحدة. والأهم أن تتعزز عُرى هذا التقارب، ليبلغ منتهاه، حتى يأتي يومٌ نعارض فيه قصيدة الشاعر الأندلسي ابن زيدون: فيصبح تلاقينا بديلاً عن تنائينا، وينوبُ طيبُ لقيانا عن تجافينا.