أيام قليلة ويدخل قانون "الجرائم الإلكترونية" المعدّل حيز التنفيذ.
مسائل القدح والذم واغتيال الشخصية هي التي احتلت واجهة النقاشات والسجالات التي صاحبت عملية إقرار هذا القانون، ما بين منتقدين ورافضين بشكل قطعي، ومؤيدين ومدافعين بشكل مُزاوِد.
شخصيا، وبخلاف الانطباع الظاهري، أظنّ أنّ قانون "الجرائم الإلكترونية" ليس معنيّا بشكل أساسي بالقدح والذم واغتيال الشخصية؛ فهذه الجرائم عند الضرورة تغطيها قوانين رسمية وأعراف اجتماعية أخرى، والسلطات من جانبها لم تعدم يوما وسيلة لمعاقبة مَن يهاجمها أو قرص أذن مَن يشاغب عليها!
أظنّ أنّ قانون "الجرائم الإلكترونية" معنيّ بشكل أساسي بما يسمّى "الأخبار الكاذبة"، خاصة أنّ هذا المسمّى قد أتى مشفوعا بمصطلحي "الأمن الوطني" و"السلم المجتمعي" المطاطيَين اللذين تحتكر السلطات بطبيعة الحال "شرعية" تعريفهما!..
ويُلاحظ هنا استخدام مصطلح "الأخبار الكاذبة" عوضا عن "الشائعات" كما يُفترض أو كما جرت العادة، بحيث تطال نصوص القانون حُكما وسائل الإعلام المرخّصة وما تنشره من أخبار، وذلك للالتفاف على التشريعات الإعلامية السارية التي تفترض أنّ الصحفي ووسيلة الإعلام صادقَين حتى يثبت العكس، ولهما الحق المطلق بالاحتفاظ بسرية مصادرهما، وأنّ "عبء اثبات" خطأ أو كذب أو زيف أي خبر منشور يقع على عاتق المدّعي بخلاف ذلك!
بكلمات أخرى، بموجب قانون الجرائم الإلكترونية فإنّ "عبء إثبات" صحة أي خبر منشور يقع على كاهل مَن ينشره حتى لو كان وسيلة إعلام مرخّصة ومشروعة، أو حتى لو كان مجرد ناقل للخبر عن وسيلة إعلام مرخصة ومشروعة!..
مرّة أخرى، أظنّ أنّ قانون الجرائم الإلكترونية معنيّ على المدى البعيد بما يسمّى "الأخبار الكاذبة"، وأنّ مسائل القدح والذم واغتيال الشخصية والتركيز "الآني" الذي شهدناه وسنشهده عليها يأتي من باب الحجة والذريعة والإلهاء!..
والآن، فلنتخيل في ضوء ما تقدم مصير الأخبار التي تنشر بناء على "تسريبات" مصدر "مُطّلع" أو مصدر "رفض الكشف عن اسمه"، كالأخبار التي تتحدث عن شبهات فساد وتجاوزات ومخالفات، أو منْح امتيازات واحتكارات لشركات بعينها أو أفراد بعينهم، أو بيع أراضٍ وموارد ومقدّرات وطنية لجهات أجنبية مجهولة للعامّة كما تبيح حزمة تشريعات "تشجيع الاستثمار" و"التحوّل الاقتصادي" النافذة.. فلنتخيل مصير مثل هذه الأخبار وناشريها ومتداوليها؟!..
أو فلنتخيل سيناريو في المستقبل القريب أو البعيد مشابه لسيناريو "جائحة كورونا"، وما قد يصاحب ذلك من تشكيك بالمرض وأصله والرواية الرسمية حوله، أو تشكيك باللقاحات وجرعاتها الإجبارية، أو أي دعوات لمقاطعة اللقاح ورفض الإجراءات والاحترازات التي ستفرض بحجة مكافحة الجائحة في ضوء تجربة الناس السابقة.. فلنتخيل الدور الذي سيلعبه قانون مثل قانون "الجرائم الإلكترونية" في ظل مثل هذا السيناريو!..
لغط وسجال كبير على جميع المستويات صاحب عملية إقرار تعديلات قانون "الجرائم الإلكترونية"، ولكنّه برأيي سجال قد ساهم في تمويه وتعمية مواطن الحذر والخطورة الكامنة في القانون بصيغته الحالية، أكثر مما ساهم في إظهارها وتوضيحها وتجليتها أمام الناس!..