عندما اجتمعت الحكومة الإسرائيلية في شهر أيار الماضي داخل قبو أسفل الحرم الشريف (المسجد الأقصى) تذكرت حينها، ولمرة أخرى إجابة الرئيس الراحل ياسر عرفات لي في بريتوريا عام ٢٠٠٠ عن سبب فشل آخر جولة مفاوضات بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك والتي كانت برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، عندما أبلغني بحضور الصديق د. نبيل شعث ان باراك طالب بالسيادة لإسرائيل أسفل المسجد الأقصى.
لم تكن صدمتي في حينها أن باراك صادق على أهداف اغتيال إسحق رابين، وإنما ايضاحه أن الخارطة السياسية في إسرائيل لم تعد مسميات أحزاب باتجاهات مختلفة، ولا حتى ذلك الخط المتعارف عليه، يسار ووسط ويمين، وإنما تكريس فتح الطريق أمام أغلبية متزايدة ترفض السلام ويتحالف فيها الديني المتطرف مع الصهيوني المتطرف، وأقلية متناقصة ما زالت تؤمن بإمكانية احياء (سلام الشجعان).
وضعت عناصر مقالي هذا منذ ايار الماضي، ثم تأنيت وترددت ومحصت أكثر في قراءة كل التفاصيل من واشنطن وحتى عمان وما حولها من عواصم اقليمية، وكان سبب التأني الرئيسي هو قناعتي ان مدرسة السياسة الخارجية والدبلوماسية الأردنية التي تشرفت بالإنتماء إليها والتي التزمتها قياداتنا الهاشمية المتعاقبة هي مدرسة تلتزم الاعتدال والوسطية والإيمان المطلق بالسلام الذي هو حق أساسي وأولي من حقوق الانسان.
وبهذا الاطار الواقعي، فقد كان واضحاً لي أن الإمعان في التطرف الذي انتهجته الحكومة الاسرائيلية الحالية منذ تشكيلها في تشرين الثاني الماضي، خطاباً وممارسة إنما يستهدف بشكل أساسي محاولة التأثير في الخطاب السياسي الأردني ليدخل معادلة ان التطرف يستجدي ويستجلب التطرف، ويتحول الى نفس مقاس تلك الحكومة وبنفس الوقت والقياس للتأثير في المنهج والخطاب السياسي المعتدل الذي ينتهجه سيادة الرئيس محمود عباس. ولم يدرك نتنياهو أن قيادتنا الهاشمية اكثر واكبر حكمة من حساباته الضيقة وان الرئيس عباس الذي تشرفت بمعرفته شخصياً منذ عام ١٩٩٥ لم يتغير لون وشكل خطابه السياسي المعتدل المبني على الشرعية الدولية قيد أنملة.
لم يكن سبب استفزازي الآن هو التعسف الإسرائيلي في العدوان الأخير على مخيم جنين برغم بشاعته، ولا حتى التسريبات الإسرائيلية التي تستهدف الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس ولا تلك التسريبات المسمومة حول ادعاء عدم قانونية الوجود الأردني في الضفة الغربية عام 1948، ولا تلك التصريحات المتطرفة والعنصرية المتعاقبة لأعضاء في الحكومة الإسرائيلية، وإنما ما يستفزني (وفي اطار مجمل الظروف الإقليمية والدولية (هو أن وضوح نمو الغالبية المناهضة للسلام في إسرائيل بات يهدد الأمن والسلم الاقليميين بشكل لم يسبق له مثيل منذ ثلاثة عقود. لذلك سأحصر استفزازي بضرورة وضع النقاط على الحروف بشأن بعض الامور، ووصف الأشياء بمسمياتها الحقيقية أياً كانت آلام وتبعات ذلك.
أولا: سلام الشجعان إن كل جهود السلام والتي بدأت منذ نهاية ستينات القرن الماضي كانت قائمة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 وأهم نص في ذلك القرار هو الإشارة إلى عدم جواز احتلال الأراضي بالقوة كمبدأ من مبادئ القانون الدولي، وكان قبول إسرائيل بذاك القرار هو اعتراف منها أن الضفة الغربية وقطاع غزة هي أراضي للغير قد احتلتها عام ١٩٦٧، وهذا المبدأ هو الذي جمع الأطراف في مؤتمر مدريد للسلام، ولمن لا يعلم المعنى الحقيقي لتعبير (سلام الشجعان) الذي إنتهجه الرئيسان الراحلان رابين وعرفات، وباركه الملك الراحل الحسين طيب الله ثراه والرئيس كلينتون، فهو كان يمثل خاتمة لصراع وجود بين طرفين، فلا اسرائیل مطلوب رميها في البحر ولا الفلسطينيون يحرمون من أرضهم ووطنهم ووطن أجدادهم ومن أقام منهم على ارض فلسطين التاريخية، ومن تم تهجيره حيث لم يهمل ذلك الاتفاق ضرورة حل قضية اللاجئين وحق الفلسطينيين باقامة كينونتهم السياسية. فكان المعنى الحقيقي لسلام الشجعان إنهاء المعادلة الصفرية في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. لذلك فإن مضمون قرار مجلس الأمن رقم 242 ، والمبدا الواضح لسلام الشجعان يمثلان القاعدة الاساسية للمطالبة بحل الدولتين الذي لا مجال للتنصل منه، فإذا كان اليمين المتطرف في إسرائيل يتصور أن القوة تستطيع أن تخلق حالة قانونية جديدة فهو مخطئ، فالقوة لا تنتج إلا استمراراً للصراع الدموي الذي لا يستطيع أحد أن يحسب امتداده ونتائجه على المدى البعيد ، و أن الحالة الإسرائيلية الحالية من تكريس إعدام ثقافة السلام إنما هي جريمة بدأت باغتيال إسحاق رابين ثم حصار الرئيس عرفات في المقاطعة ، والتنصل التدريجي من الالتزامات والاتفاقيات التي شهد عليها العالم . ولا يدرك اليمين الإسرائيلي أن هذه الحالة السياسية المتطرفة التي يتبناها يمكن أن تمتد إلى حالة عذاب يومي يعاني منه الإسرائيليون وليس فقط الفلسطينيين ، وأكثر من ذلك يضع الأمن والسلم في المنطقة أمام نذير خطر غير محسوب المعالم والنتائج.
ثانياً: ان المساكن التي يتم بناؤها على الأراضي الفلسطينية المحتلة مسماها الحقيقي مستعمرات وليس مستوطنات، ومن يسكنها هم مستعمرون وليسوا مستوطنين، وهذا هو الواقع الموضوعي بكل اللغات colonists, coloniese وآن الأوان لخطابنا الرسمي والإعلامي ان يسمي الأمور بمسمياتها الصحيحة. وذات يوم قبل ان يأمر شارون بالانسحاب من مستعمرات غزة وتدميرها، وعندما كانت الآمال كبيرة بتحقيق السلام، كنت شخصياً لا أكترث بأخبار بناء المستعمرات، لأن موضوعية نشوء السلام الحقيقي بين الفلسطينيين والاسرائيليين تقتضي أن يغادر الاسرائيليون تلك المساكن لتصبح جزءاً من خطة التعويض على اللاجئين في اطار مفاوضات الوضع النهائي.
ثالثاً: الاحتلال يمثل الاحتلال الاسرائيلي سر غياب الأمن والسلام الدائم في المنطقة، وسبباً رئيسياً لولادة التطرف ولقد اوضح جلالة الملك عبد الله الثاني خلال خطابه أمام القادة في قمة جدة الأخيرة ، انه ما لم يتم الوصول الى حل الدولتين ونشوء الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية وفق معادلة حل الدولتين ، فسيبقى السلم والأمن في المنطقة عرضة للتهديد المستمر.
واعتذر من أصدقائي المؤمنين بالسلام غربي النهر فلسطينيين واسرائيليين، فكل جهودنا من أجل المحافظة على الوضع القائم في القدس، ليس عدوها فقط مواقف وزير الأمن الاسرائيلي وممارسات الشرطة الاسرائيلية ، وإنما الابتعاد عن كلمة السر الحقيقية : الاحتلال. وطالما أن الطبقة الحزبية الحاكمة في اسرائيل لا تعترف ان وجودها في الضفة الغربية احتلالاً، فنحن أمام متواليات من التطرف والاحتكاك ، لا يحمد عقباه، وسيعاني منه كلا الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي.
رابعاً: الواقعية، ولطالما سمعت خلال مشاركاتي في منتديات ومؤتمرات وملتقيات مؤخراً الحديث عن الواقعية عند بحث تطورات العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، فالبعض يعتقد أن الإجراءات الاسرائيلية على الأرض واستمرار بناء المستعمرات، جعل حل الدولتين غير واقعي، ومفرغ من معناه واهدافه، واصحاب هذه ( الواقعية) لا يرون واقعية البديل، فعلى الجانب الاسرائيلي لا يستطيع اليمين الاسرائيلي ان يفكر بواقعية وجود اكثر من خمسة ملايين فلسطيني على ارض فلسطين التاريخية، ولا ان العالم يرفض سياسة التمييز العنصري بعد ان أسدل الستار عليها في جنوب افريقيا ولا حقيقة ان الشعب الفلسطيني شعب حي يرفض مصادرة حقوقه ولن يرضخ ويهدأ قبل تحقيق اهدافه أياً كان الثمن.
نعم، الواقعية السياسية تقتضي ان نتذكر ان وقعية الإجراءات الاسرائيلية على الأرض لا تخلق واقعية جديدة في قواعد القانون الدولي، ونعم أيضاً ، فالواقعية السياسية اثبتت حتى الآن أن أصدقائنا وحلفاؤنا في واشنطن ) ولأسباب معروفة ( والذين هم عرابو السلام يترددون في المضي للخطوة الإضافية المطلوبة لتنفيذ ما شهدوا عليه من اتفاقات سلام، وهذا التردد مصالحه ضيقة، لكن نتائجه قد تكون وخيمة حتى على المصالح الأمريكية ذاتها.
الواقعية تقتضي القول ان قبول إسرائيل بالحق الفلسطيني في اطار حل الدولتين وقبول كل جيرانها بها، هو الأقل كل كلفة على المدى الطويل من الوجود المحمي بالسلاح. السلاح النووي الاسرائيلي (خيار شمشون) واقعية كما طائرات ف ١٦ والتفوق العسكري، ولكن هذا لا يلغي حقيقة أنه في غياب نيل الحقوق الفلسطينية فمن الواقعية المدعومة بتجربة الواقع، أن ولادة كل طفل فلسطيني في الضفة الغربية أو حتى يافا واللد والمثلث هي ولادة قنبلة موقوتة تجرح الأمن الاسرائيلي.
خامساً: إسرائيل الى أين إن معضلة الحكومة الاسرائيلية الحالية ومعضلة نتنياهو الداخلية الشخصية لم تنته بعد ولن تنفع سياسة واشنطن بانتقاد اسرائيل بالسر، ودعمها بالعلن ، وتقديري الشخصي ان على واشنطن حساب الثمن الحقيقي ) حتى على المستوى الحزبي وانتخابات الرئاسة القادمة ( وتبعات هذا الثمن لا تستحقه حكومة اليمين الاسرائيلي، التي كما ذكرت أنهت ثقافة السلام من عقل الأجيال الاسرائيلية الشابة، وما لم يؤمن الشباب الاسرائيلي بالسلام ومتطلباته الرئيسية وعلى رأسها نيل الشعب الفلسطيني حقوقه، فإن كل أهداف التطبيع مع إسرائيل، ما تم وما هو مستهدف، لن تحقق السلام الحقيقي لإسرائيل.
نحن في الأردن نؤمن بحتمية السلام ونحترم معاهدة السلام، ومن ضمن هذه المعاهدة اتفاقنا أن حدودنا مع الضفة الغربية سوف نرسمها مستقبلاً مع الدولة الفلسطينية، والتسريبات المنسوبة لرئيس الحكومة الاسرائيلية بنية بناء جدار أمني إسرائيلي شائك بين الاردن والاراضي الفلسطينية المحتلة ، ذكرني برد لي خلال لقاء مع محطة تلفزيونية غير اردنية حول سؤال عن انتهاكات إسرائيل لجوانب من معاهدة السلام بما فيها إتفاق المياه، حيث كان جوابي ان استمرار إسرائيل بانتهاك معاهدة السلام الاردنية الاسرائيلية ربما يصل بنا الى جعل حدودنا مع فلسطين التاريخية ستاراً حديدياً مغلقاً .
الاسرائيليون المؤمنون بالسلام اصبحوا معزولين ويتناقص عددهم ووزنهم السياسي أمام موجة التطرف التي تحكم مصير الإسرائيليين حالياً وما لم يكن هناك رسالتان صادمتان ترسلان الى تل ابيب ، فإن مصير الاعتدال الاسرائيلي الى اضمحلال نهائي ، الرسالة الأولى أن الموقف العربي الذي صدر في اطار بيان قمة جدة هو موقف كل عاصمة عربية ولا يمكن استفراد اي دولةٍ عربية للخروج عن الإجماع العربي بشأن القضية الفلسطينية، والرسالة الثانية من واشنطن ، تحويل الموقف الداعم لحل الدولتين الى مواقف أكثر ديناميكية وتاثير في السياسة الاسرائيلية وبخلاف ذلك ، فالواقعية الأهم هي : هل تستطيع اسرائيل التعايش مع القنبلة الديمغرافية الفلسطينية الحيوية المتنامية ؟