هزاع ووصفي .. وتقدير الرجال للرجال
د. بسام البطوش
30-08-2023 10:44 AM
عمل وصفي التل معلماً في الكرك والسلط ما بين سنتيّ 1941-1942م وتم فصله بأمر من رئيس الوزراء توفيق أبو الهدى، إضافة إلى سجنه لمدة ثلاثة أشهر ونيف. ابتعد بعدها وصفي عن الوظيفة الحكومية، وحاول الانتساب للجيش العربي لكن كلوب باشا رفض قبول طلبه، فهو جامعي وخريج الجامعة الأمريكية! فذهب للعمل في الجيش البريطاني، لاكتساب خبرة تفيده في نضاله لصالح فلسطين وقضايا العرب، ثم انضم لجيش الإنقاذ مقاتلاً في فلسطين، وسجنه حسني الزعيم في دمشق، لرفضه تسريح جيش الإنقاذ، ثم عمل في المكاتب العربية في القدس ولندن وبغداد لخدمة قضية فلسطين، ثم عمل في المشروع الإنشائي في القدس.
ثم عاد وصفي ليبحث عن وظيفة حكومية في بلده وصادف الأمرّين، وأخيراً وبتاريخ 7/5/1950م صدر قرار تعيينه بوظيفة مأمور إحصاء، في دائرة الاحصاءات العامة، لمّا كان صديقه حمد الفرحان مديراً لها. وبقي يحاول الانتقال إلى وزارات المعارف أو الداخلية أو الخارجية أو الاقتصاد، بحكم مؤهلاته العلمية، وخبراته وتجربته، وبحثاً عن الإنصاف جرّاء ما فاته من سنوات خارج الوظيفة بأحكام جائرة، ورُفضت طلباته كلها، من عدة حكومات.
وانتقل عام 1951م الى وزراة المالية بوظيفة مأمور تقدير في دائرة ضريبة الدخل في عهد وزير المالية صديقه عبدالحليم النمر الحمود، وبعد أشهر نسّب الحمود بترقيته الى الدرجة الرابعة وتعيينه مفتشاً للضريبة لكن رئيس الوزراء توفيق أبو الهدى رفض هذه التنسيبات. وفي عام 1953 حاول خلوصي الخيري وزير الاقتصاد نقل وصفي لوزراة الاقتصاد لكن رئيس الوزراء أبو الهدى رفض. و في أوائل 1954 وافق توفيق أبو الهدى على نقل وصفي مساعداً لمدير ضريبة الدخل.
وبتاريخ 22/10/1955م تقرّر انتداب وصفي من وظيفته مساعداً لمدير الضريبة للقيام بأعمال مدير المطبوعات العامة، وكان هزاع المجالي وزير الداخلية في حكومة سعيد المفتي الثالثة قد وقف خلف هذا القرار، وحاول هزاع تثبيت وصفي في وظيفة مدير عام المطبوعات والنشر، وبعث بكتاب تنسيب الى محمد أديب العامري رئيس ديوان الموظفين بتاريخ 20/11/1955م، لأخذ قرار بهذا الشأن، ووقع هزاع الكتاب نيابة عن رئيس الوزراء المفتي، ولم تحصل الموافقة، مما دفع هزاع لإرسال كتاب آخر بهذا الخصوص بتاريخ 24/11/1955م.
وبقي وصفي في موقعه مديراً منتدباً للمطبوعات العامة إلى أن طلب رئيس الوزراء 1956م من وزير المالية هاشم الجيوسي إعادة وصفي إلى وظيفته مساعداً لمدير ضريبة الدخل، وبعد ثلاثة أشهر قرّر رئيس الوزراء ووزير الخارجية سمير الرفاعي نقله إلى وظيفة مستشار بوزارة الخارجية وتحديد مكان عمله في المفوضية الأردنية في بون.
وفي لحظة مفصلية عقب أحداث نيسان 1957م، وإنهيار حكومة النابلسي الحزبية، ومحاولة الانقلاب العسكري، صدرت الإرادة الملكية بتاريخ 25/5/1957م بتعيين وصفي التل رئيساً للتشريفات الملكية. وبعد ستة أشهر قررت حكومة إبراهيم هاشم إعادة وصفي إلى ملاك وزارة الخارجية، اعتباراً من 17/11/1957م. و قرّت تعيينه بتاريخ 24/12/ 1957م مستشاراً في المفوضية الأردنية في طهران.
بقي وصفي في طهران حتى جاء هزاع المجالي رئيساً للوزراء بتاريخ 6/5/1959م، فكان أول إجراءاته وقراراته أن أرسل برقية لوصفي للعودة العاجلة للوطن، نصّها: «يَدٌ في الكتاب ورِجلٌ في الرِكاب». وقرّر مجلس الوزراء نقله من ملاك وزارة الخارجية وتعيينه مديراً عاماً للاذاعة بالدرجة الأولى (أ). وقدّم وصفي لهزاع مشروعاً لإعادة بناء أجهزة الاعلام والتوجيه الوطني، وإنشاء المديرية العامة للإذاعة والأنباء، وإعادة تشكيل السياسات الإعلامية والخطاب الاعلامي الوطني، في مواجهة حملات التضليل والتشكيك والدعاية الناصرية والبعثية والعربية الظالمة ضد الأردن.
وكلّف رئيس الوزراء هزاع المجالي صديقه وصفي التل برئاسة التوجيه الوطني بالوكالة بالاضافة الى عمله مديراً للإذاعة اعتباراً من 25/8/1959م. وبتاريخ 3/7/1960م قرّر مجلس الوزراء برئاسة هزاع ترفيع وصفي إلى الدرجة الخصوصية (الخاصة). من الماحظ أن هزاع مضى في سياسة إنصاف ودعم وصفي ورفع القيود التي توضع في طريقه منذ زمن، فقد دأبت الارستقراطيات المتنفّذة على إبعاده عن مواقع التوجيه والتأثير الإعلامي والسياسي، والحيلولة دون اقترابه من دوائر القصر والديوان الملكي قدر ما يستطيعون، لكن الملك الحسين كان هو من فتح لهزاع ولوصفي أبواب الدولة ومنحهما ثقته وآمن بقدراتهما وإخلاصهما وتفانيهما في خدم الوطن والعرش، ودأب على صد الهجمات عنهما، وكان أكبر من شعر بفداحة فقدهما.
ولعب الرجلان هزاع ووصفي دوراً هاماً في صناعة وتشكيل الهوية الوطنية، وإحياء الموروث الثقافي الأردني، وتسخير أجهزة التوجيه والإعلام لإبراز الثقافة الوطنية الأردنية في مواجهة حملات الإقصاء والتهميش والإنكار.
وفي اليوم ذاته الذي قضى فيه هزاع المجالي شهيداً في حادثة تفجير الرئاسة بتاريخ 29/8/1960م جاء بهجت التلهوني رئيساً للوزراء، وسرعان ما أعاد النظر في مجمل المواقع الرسمية المتصلة بالاعلام، وبتاريخ 20/11/1960م انقطعت صلات وصفي بأجهزة الإعلام، وقررت الحكومة ترشيحه سفيراً في بغداد، وبقي في هذا الموقع حتى 17/1/1962م، وبعدها، جرى تكليف وصفي بتشكيل أول وزاراته بتاريخ 28/12/1962م.
وقد استذكر وصفي التل صديقه هزاع المجالي لاحقاً بكلمات عميقة: "المعركة ضد التزوير والتهريج لا بد يصير لها ضحايا، بالنسبة للأردن بالذات كان من ضحاياها هزاع، وبجوز أكون أنا ضحية ، وبجوز غيري يصير ضحية، هذه معركة إذا كنا على حق، واجبنا أن نقدم هالتضحية، المؤامرة التي قتلت هزاع ما أضعفتنا، واللي بدها تقتلني ما بتضعفناش، والقائمة بتمشي، وإذا مات منا سيدٌ قام سيدُ".
وبحسب رواية راكان المجالي في مقاله ( في عمون بتاريخ 28/11/2016) بقي وصفي التل مستذكراً إستشهاد هزاع، يقول ويردّد: "والله جارحة يا أبو أمجد .. أنا على طريق أبو أمجد". وبقي وصفي من بعد هزاع يواجه القيود والصدود، ولم ينسَ وصفي ولم يغفر وصفي للناصرية وللمهرجين وللأدوات كلهم جريمة إغتيال رفيق عمره هزاع، إلى أن ارتقى شهيداً على درب هزاع وبنفس أدوات الغدر ذاتها في قلب القاهرة.