على الرغم من أن عدد الأصدقاء في حياتي يُعدُّ ولا يُحصَى من المشرق إلى المغرب ومن المُحيط إلى الخليج، وأنا أسيح في بلاد الله وأشاهد خلق الله، إلا أن أقرب صديق لي هو نفسي، هي الصديق الأكثر تحملًا لنزقي وترهاتي، لأحلامي وأفكاري ورِحلاتي، تُعاندني في أوقات كثيرة، تمنعني من أشياء أهواها، أعصلج معها لكنها تنتصر في النهاية.
أجلس أنا مع أنا على فنجان قهوة واحد وكتاب واحد وأفكار مُتعددة بلا ضجيج ولا صخب، نستمع إلى الموسيقى معًا، نشاهد الأفلام التي نحب، نُعاني نفس الألم ونواجه قسوة الحياة ونُدير حديثًا عن الحمقى الذين يملؤون حياتينا، ولو أن أنا سوف يُحاسبني على ما أقول بيني وبينه لحصلت على حكم بالسجن بسبب ما أهاجمه به وأتلفظ عليه به، لكن الحمد لله لا يوجد طرف ثالث يستمع إلى نقاشاتنا معًا، بالأمس قلت له لماذا تواصل قراءة الكتب وتضيع عمرك ووقتك في كتب كُتبت منذ آلاف السنين، والعالم المادي لم يعد يهتم الآن إلا بالتفاهة والرأسمالية والتكالب على التسوق وعلب الأشياء التي تلمع خلف زجاج لامع في المحلات وأماكن التسوق وال «شوبنج».. إنها ثقافة الموضة؟!
هل تعتقد أن أحدًا يهتم بمُحاورات أفلاطون أو أن سيد سيد الرحيمي في رواية نجيب محفوظ «الطريق» كان يبحث عن العدل وليس أمه، أو أن هاروكي موراكامي في كافكا على الشاطئ كان مشغولًا لدرجة أنه لم يجب على شيء من أحجية الرواية، وتركنا مع كافكا الفتى الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره والعجوز ناكاتا الذي يسعى إلى صناعة أسطورته؟!
وهل تظن أن هناك من يسأل لماذا وصف عبد الرحمن الأبنودي حبيبته في أغنيته «عدوية» التي غناها محمد رشدي ب «يا أم العيون السنجابي».. هل عيون السنجاب جميلة إلى هذا الحد؟، يا ليته ركب المركب قبل أن تقلع!
هل هناك في هذا العالم اللاهث من يتوقف ليُكملَ أفكار نيتشة في «زرادشت» أو يُفسر الكآبة التي أودع فيها شوبنهاور فلسفته؟!
هل هناك من يتأمل لماذا أكثر من نصف شعر أعظم شاعرين في العصرين العباسي والحديث، أعجوبة عصرهما، يمتلئ بالنفاق للحكام والوزراء والمسؤولين مثل المتنبي وأحمد شوقي؟!
هل بسبب تكاليف الحياة الصعبة التي واجهوها، وهل كانت حياتهم تواجه نفس المتاعب التي يواجهها المُجتمع الحالي؟!
هل هناك من سأل ماذا لو كان أبو حيان التوحيدي يعيش في عصرنا؟ هل كان أحرق كتبه؟!
وهل هناك من يسأل عن أحوال أحمد الزعتر أو شتاء ريتا الطويل ويتتبع «أثر الفراشة» و»عصافير الجليل» بعد موت محمود درويش؟!
وهل في وسط الزحام من يتأمل آدم وحواء اللذين يعبران الطرقات ويواجهان الحياة؟، كما أدار مارك توين حواره معهما في كتابه يوميات آدم وحواء، عكس الحزن الجاسم في مُذكراته الصغيرة والنهايات الحزينة لزوجته وابنته؟!
ثم لماذا انتهت سيلفيا بلاث إلى تلك النهاية يا شوبنهاور؟! لم يكن دوستوفيسكي في فلسفته حاضرًا هنا، ربما لو وجد في العالم الرأسمالي وليس الاشتراكي لذهب يبحث في المُجمعات التجارية عن أحدث ماركة حذاء ولم يهتم بنهاية بطله قاتل العجوز في الجريمة والعقاب؟!
وهل هناك في هذا العالم الذي يركض في محلات التسوق مشدوهًا بالماركات من يسأل لماذا راح دون كيشوت يُحارب طواحين الهواء في الرواية الشهيرة التي كتبها ثيربانتس؟!
نفسي تلوم أنا على اكتشاف حنه آرنت المُتأخر «تفاهة الشر»، وعلى الولع الدائم بأخبار ونستون تشرشل وسياساته وكتاباته، فدوره مع بلادي لم يكن طيبًا وقت الاحتلال البريطاني لمصر!
يبدو أنني الآن وبهذا المقال أحارب طواحين الهواء، أو أني هبطت ومعي مكتبتي مثل بطل جول فيرن في «عشرون فرسخًا تحت الماء» فلأول مرة يخرج هذا الحديث عن دائرتي أنا وصديقي أنا الذي يتأمل معي دائمًا كل شاردة وواردة، فلا تأخذ نفسك يا قارئي العزيز بالكلمات السابقة، يبدو أنني أطللت خارج غلاف كتاب في وقت مُتأخر، دمت طيبًا.
"الراية القطرية"