تكتل "بريكس" .. طموح يقيده واقع
عمر مقبل العبداللات
27-08-2023 01:03 PM
(من يعيش على امجاد الماضي، قد يفوته ان هناك من يعمل بجد في الحاضر لتسيّد المستقبل)
الأمريكيون هم اول من اطلق اسم "بركس" على المجموعة، ويعود ذلك لعام 2001 من خلال جيم اونل، كبير الاقتصاديين في بنك غولدمن ساكس، عندما تحدث عن اربع اقتصاديات تحقق نمواً متسارعاً وتمثل فرصاً استثماريةً سانحة وهذه الدول هي البرازيل والهند والصين وروسيا، وانضمت لها جنوب افريقيا عام 2010 ليصبح التكتل تحت مسمى "بريكس ". تفوقت مساهمة دول "بركس" في الناتج الإجمالي العالمي لعام 2022 على مجموعة السبع (الدول الصناعيه الكبرى ) حيت بلغت مساهمتها 31.5% مقابل 30.7% ويضاف له التفوق الديموغرافي حيث يسكن 40% من سكان العالم في دول "بركس"، علاوةً على احتلالها 26% من مساحة اليابسة و18% من التجارة الدولية، وهي قوى هامة في مجالي الطاقة والغذاء، فروسيا ثاني اكبر مصدر للنفط والغاز والقمح في العالم والهند اكبر منتج للأرز والبرازيل اكبر منتج لفول الصويا والصين تمثل مصنع العالم وعلى الرغم من ذلك لا تملك هذه الدول سوى 10-15% من حقوق التصويت داخل البنك وصندوق النقد الدوليين ولذا تسعى مجموعة "بركس" لخلق نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب بشقيه السياسي والاقتصادي.
دول "بركس" ليست على قلب رجل واحد، في شكل نظامها السياسي ومصالحها، ففي الوقت الذي يعتبر فيه النظام سلطوياً في الصين وروسيا فهو ديموقراطياً في الهند والبرازيل وفي حين تناوء روسيا والصين الغرب تعتبر الهند حليفاً له وتتبنى البرازيل حياداً معه، ومما لا شك فيه ان العقوبات الغربية المفروضة على الصين وروسيا قللت من جاذبيتهما للاستثمار مما انعكس على معدلات النمو الاقتصادي لهما وتواجه الهند بين الحين والأخر اضطرابات طائفية تهدد سلمها الأهلي والذي يعد شرطاً اساسياً للتنمية والتقدم.
انعقدت القمة الأخيرة للتكتل في "جوهانسبورغ" حيث دُعيت 69 دولة من شرق وجنوب العالم لحضور القمة، قدمت منها 22 دولة طلباً رسمياً للانضمام حيث تسعى لخلق تكتل وازن على مستوى العالم تحت مسمى "بركس بلس"، حيث كان المعيار الرئيسي لقبول أعضاء جدد هو إضافة قوه للتكتل سواء على مستوى الموقع الجيوستراتيجي او ثروات الطاقة والمعادن او الكتلة البشرية ومساحة الدول، وهذه المعايير واضحة تماماً في الأعضاء الستة الذين تم قبولهم (مصر، السعودية، الامارات، اثيوبيا، ايران، الارجنتين) ومع هذه الدول ستشكل حصة مجموعة "بركس بلس" 47.8% من انتاج النفط بالعالم و46% من سكانه.
تعتبر الصين وروسيا اكثر الأعضاء حماساً لتوسعة التكتل بهدف توسيع نفوذهما وتقليص هيمنة الولايات المتحدة، حيث أن انضمام أعضاء جدد سيجعل من العقوبات الاقتصادية التي تفرض عليهما اقل فاعليةً، في حين تتحفظ البرازيل والهند على التوسعة ويعود سبب ذلك الى عدم رغبتهما ان يصبح التكتل نادياً صينياً، خاصة ان معظم الدول الراغبة في الانضمام تتطلع الى فرص اقتصادية مع الصين ومما يؤكد ذلك ان الناتج الاقتصادي للصين يزيد بمقدار الضعفين عن الناتج لدول "بركس" الأربعة مجتمعة، وكذلك فالدولتان لا ترغبان في استعداء الغرب فهما مع اصلاح النظام العالمي الحالي وليس هدمه. وما يفسر العدد الكبير من الدول النامية الراغبة بالانضمام للتكتل هو سعيها للاستفادة من قروض بنك التنمية الجديد الذي انشأته المجموعة عام 2014 برأس مال 150 مليار دولار امريكي لتمويل مشاريع البنية التحتية، حيث موّل البنك مئة مشروع بكلفة 33 مليار دولار ويسعى لمنافسة البنك الدولي من خلال رفع قدرته الاقراضية الى 350 مليار دولار عام 2030 متجاوزاً بذلك البنك الدولي، وهذا يمكن ان يشكل فرصة سانحة للدول النامية ومنها الأردن لتنويع مصادر اقتراضه بشروط ايسر.
مع زيادة اعتماد الولايات المتحدة على العقوبات المالية والتجارية كأداه للسياسة الخارجية تسعى دول "بركس" وخاصة روسيا والصين الى تأسيس عملة احتياط مدعومة بسلة من عملات الدول الأعضاء وسلة من السلع والمعادن الاستراتيجية مثل النفط والغاز والفحم والنحاس واليورانيوم والليثيوم بالإضافة للذهب، حيث سارعت الصين الى مضاعفة كمياته المشتراه وقامت روسيا بشراء 50 طن من السبائك الذهبية عام 2022، كل ذلك بهدف إيجاد عملة رئيسية ثالثة في العالم الى جانب الدولار واليورو وبالفعل فقد بدأت دول المجموعة باستخدام عملاتها الوطنية وخاصة اليوان الصيني في المبادلات التجارية بينها.
ان إزاحة الدولار عن تسيده لعملات العالم يبدو بعيد المنال لسببين، أولهما ان السلع الاستراتيجية بالعالم مقومةٌ به وحوالي 60-80% من المعاملات التجارية والمالية تتم به ويشكل 60% من احتياطيات الدول من العملات الصعبة، فالصين تملك 4 تريليون دولار احتياطي منه وكذلك فقروض الدول النامية جميعها بالدولار، وثاني هذه الأسباب ان إيجاد عملة موحدة يتطلب توحيداً للسياسات الاقتصادية والمالية تبدأ من الاتحاد الجمركي مروراً بالسوق المشتركة وانتهاءً بحرية انتقال رؤوس الأموال والعمالة وهذا ما تطلب 42 عام من الاتحاد الأوروبي للوصول الى اليورو وتأسيس بنك مركزي أوروبي.
ليس من المتوقع بين ليلة وضحاها احداث تغير في النظام العالمي الحالي بشقيه السياسي والاقتصادي ولكن صيرورة التاريخ التي تثبّت التغير كسنه كونية تشجع دول "بركس" للعب دور في تغيير الجغرافيا السياسية والاقتصادية وميزان القوى العالمي وهذا يفرض على معظم دول العالم التي تتبنى الحياد السياسي وتعطي أولوية للنمو الاقتصادي إعادة تموضعها لحجز مقعد لها في الصفوف الامامية او الخلفية، فهل يدفع هذا دول الشمال التي تقود النظام العالمي الى تبني المشاركة بدلاً من المغالبة لاقتسام كعكة النفوذ مع دول الشرق والجنوب؟.