لا أحد يعرف مَن أشار على الرئيس التونسي المخلوع ، زين العابدين بن علي ، باستعارة عبارة "فهمتكم.." ، من الزعيم الفرنسي "شارل ديغول.." ، في الخطاب الذي وجّهه الى الشعب التونسي ، قبيل خلعه بأيام. فقبل أكثر من خمسين عاماً ، وبعد يومين من تسلّمه مهمّته كرئيس وزراء ، زار "شارل ديغول.." الجزائر المُستعمَرَة ، وهناك قال كلمته الشهيرة: "لقد فهمتكم ، انني أعرف ما الذي حدث هنا..". حيث كان يخاطب حينها فرنسيي الجزائر ، وكذلك المسلمين الجزائريين ، الذين كانوا يؤيدون الوجود الفرنسي في الجزائر. ذلك أنّ فرنسيي الجزائر تحديداً هُم الذين كانوا وراء انقلاب أيار عام 1958 ، وهُم الذين خاطبهم "ديغول.." بتلك العبارة آنذاك. تُرى مَن هُم ، الذين كان يعتقد الرئيس التونسي أنّه كان يخاطبهم ، حين قال: "الآن أنا فهمتكم.."..؟،.
فمنذ أن أطلق الشيخ التونسي ، المجاهد علي بن خليفة النفاتي ، في أواخر القرن التاسع عشر ، في مقرّ حكمه بمدينة قابس ، حيث كان والياً وأميرَ لواءْ عسكري ، صيحته الشهيرة الشهيرة: "الآن أصبحت طاعة الباي كُفراً.." ، لتنطلق بعدها ثورة التونسيين ، ضدّ الغزاة الفرنسيين والباي وأعوانه معا ، بدأت ثقافة جديدة بالترسّخ في تونس. غير أنّ الشيخ الجليل مات منفياً ، وهو يراقب شتّى أنواع الظلم والقهر ، التي يكابدها شعبه ، مًن الباي والفرنسيين معاً. وكان على التونسيين أن يواصلوا الانشاد للباي ، لأكثر من مئةْ وعشرة أعوامْ ، كنشيدْ وطني: "بدوام هذا النّصر وعزّ هذا العصر ـ يعيش (.. اسم الباي المعاصر) باي طول السّنين والدّهر".
ولأنّ النشيد الوطني ، للشعوب والأوطان ، عادةً ما يعبّر عن روح وهوية وتاريخ الناس والمكان ، وما يطرأ عليهما من تغيّرات ، فقد كان تغيير ذلك النشيد لازماً. فبعد استقلال تونس بقليل ، تمّت الاستعاضة بالنشيد الوطني: "ألا خلًّدي.." ، بدلاً مًن "سلام الباي.." ، وبموافقة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. وعلى الرغم من أنّ النشيد يُمجّد كفاح التونسيين ، بنبرة عالية:
ألا خلّدي يا دمانا الغوالي جهادَ الوطن
لتحرير خضرائنا لا نبالي بأقسى المًحن
جهادّ تـَحلّى بنصر مبين
على الغاصبين على الظالمين طغاة الزمن
الا أنّه ظل يحملُ اشارة صريحة الى شخصً الرئيس الحبيب بورقيبة: "نخوض اللهيب بروح الحبيب زعيم الوطن". غير أنّ التونسيين ، كغيرهم مًن العرب ، ظلّوا يحلمون بغدْ أفضل ، ويواصلون انشادهم الوطني:
أرى الحكم للشعب فابنوا لنا
من المجد أعلى صروحْ تُشاد
أجيبوا أجيبوا لأوطاننا
نداء الأخوة والاتـّحاد
وكعادة الأنظمة العربية الحديثة ، التي يرى معظمها أنّ النشيد الوطني هو نشيد شخصيّّ للحاكم ، فبانقلاب الرئيس المخلوع ، زين العابدين بن علي ، على معلّمه الحبيب بورقيبة ، في العام 1987 ، قام بتغييره. حيث استبدل النشيد الوطني القديم "ألا خلًّدي.." ، بنشيد "حُماة الحًمى.." ، الذي كتب معظم كلماته مصطفى صادق الرافعي. وهو نشيدّ يعود الى مرحلة ما قبل الاستقلال ، وحافلّ بمفردات"الصواعق والرعد والنار والدمً.." ، كما أُضيف اليه بيتين لأبي القاسم الشابّي ، هما:
اذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بُدّ أن يستجيب القدر
ولا بدّ لًليل أن ينجلي
ولا بُدّ للقيد أن ينكسر
وعلى الرغم مًن فخامة النشيد وجزالته وعراقته: "حُماة الحمى يا حُماة الحمى ـ هلمّوا هلمّوا لمجدً الزمن" ، وتحصينه ببعض مًن قصيدة الشابّي ، التي صارت تونس تُعرف بها ، غير أنّ ذلك لم يُحصّن حاكمها المُستبًدّ. وبقيت جذور النشيد الوطني التونسي ، تسري في دماء أبنائه ، بصخبْ منقطع النظير ، الى أن وصلوا الى مجدً ثورة ياسمينهم اليوم ، وهم يردّدون: "فلا عاش في تونس مَن خانها ـ ولا عاش مَن ليس مًن جُندها ـ نموت ونحيا على عهدها ـ حياة الكرام وموت العظام".
في لحظاتْ كهذه ، مًن تاريخ الشعوب ، عادة ما تبدأ الأسرار التفصيلية بالتكوّن ، ملفوفة بغطاء كثيفْ من الاشاعات ، حيث لا يُتاح كشفها الا بعد سنوات طويلة. وبرغم البثّ الحيّ والمباشر ، لوقائع الانتفاضة التونسية ، وتفاصيل قمعها الوحشي والعنيف ، من قبل أجهزة النظام البائد المتخصّصة ، منذ أن اندلعت في "سيدي بو زيد.." ، بعد احراق الشاب المظلوم ، محمد البو عزيزي لنفسه ، قبل نحو شهر ، احتجاجاً على ظروفه وتعطّله عن العمل ، الا أنّ وقائع التخريب والترويع المنظّم ، التي تلت سقوط الطاغية ، والارباك والتخبّط ، اللذين يرافقان مسألتي تنظيم الأمن والسلطة ، يشير الى أنّ الكثير ، من التفاصيل الأمنية والسياسية ، ما تزال مجهولة وغامضة،؟.
وأوّل الغموض يبدأ بالتساؤل عن ليلة هروب الرئيس ، وكيف تمكّن من الفرار..؟ ما هو مؤكّدّ حتى الآن ، وهو قليل: أنّ زين العابدين بن علي لم يغادر تونس مستقيلاّ ، من منصبه كرئيسْ للجمهورية ، كما أُشيع في البدايات. بل غادر لأسباب قسرية ، لم يتمّ تأكيدها بعد ، وما هو مؤكد ، أنّ الفريق رشيد بن عمّار ، قائد أركان القوّات البريّة ، رفض الانصياع لأوامر ابن علي ، باطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين ، ومنذ الأيام الأولى للاحتجاجات ، ما أدّى الى اقالته من منصبه ، ووضعه تحت الاقامة الجبرية. وهو أمرّ شاهد الناس مفاعيله على الشاشة ، حين كان المتظاهرون يصافحون أفراد الجيش ، بمحبّة وأمان ، مقابل صورة الوحشية القاسية ، الممارسة من قبل رجال الشرطة والأمن الرئاسي.
في هذا السياق ، تقول استخبارات دول أوروبية: انّ ابن علي لم يغادر البلاد طوعاً ، ولكن تمّ خلعه من منصبه. وأنّ بداية النهاية كانت مع اقالته لرئيس الأركان في جيش البرّ التونسيّ ، الجنرال رشيد بن عمّار ، الذي تحدّى ابن علي ، ورفض اطلاق النار على المتظاهرين.
أما أوضح الأشياء ، فهو ما كتبه التونسيون على الأرض ، بخلعهم للطاغية ، واستمرارهم في تنظيف البلاد مًن أركان نظامْ لم يسقط بالكامل بعد ، ليفتحوا مستقبلاً واعداً لأبنائهم ، بفيضْ من دماء شهداء ثورة الخبز التونسية. انّهم الآن يهتفون نشيداً وطنياً حقيقياً ، والتي تأملُ غالبية العرب أن تكون لها مفاعيلها المؤثّرة في كلّ "بلاد العُرب أوطاني.." ، وعلى مسمعْ من كلّ العرب والعالم أيضاً:
"لادي أحكُمي وأملكي واسعدي
فلا عاش مَن لم يعش سيّدا
لكً المجد يا تُونس فاستمجدي
بعزّة شعبك طُول المدى
(الدستور)