منذ تصادقنا في رحلة جزائرية حلوة، قبل خمسة وثلاثين عاماً، إلاّ قليلاً، لا أتذكّرنا غبنا عن بعضنا أسبوعاً كاملاً، اللّهم إلاّ لسبب السفر، أو لطوارئ يأتي بها العُمر، وفي مطلق الأحوال فقد أحبّه والدي قبلي، حين كانا على مقعدين متجاورين ليلة إعلان “الدولة الفلسطينية”.
بكى في تلك اللحظة، ضمن ذلك الفجر شخصان، وسجّلت دموعهما عدسات الشبكات العالمية: مُحمّد الخطايبة، وجورج حبش، وفي اليوم التالي لم يكتب أبي عن “الحكيم” الفلسطيني، بل عن “الرائع” الأردني، فلعلّه تذكّر يافا والقُدس مع دمعات “أبي عامر”، أكثر ممّا كان من فَرح للحظة تاريخية مارقة من العُمر.
لعلّ محمد الخطايبة كان ذلك الذي قصده امرؤ القيس، حين هتف: بَكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَنا، وَأَيقَنَ أَنّا لاحِقانَ بِقَيصَرا، فَقُلتُ لَهُ لا تَبكِ عَينَكَ إِنَّما، نُحاوِلُ مُلكاً أَو نَموتُ فَنُعذَرا، فلا الدولة الفلسطينية أتت، ولا مُلك أبي عمّار تحقّق، وكان ما كان، ومات أبي بعدها بقليل، وظللنا محمد الخطايبة وأنا نندب حظوظنا الوطنية، حتى اللحظة…
وآثر أبو عامر أن يُبلغني بمرضه، لأيام قليلة، لعلّّه خاف عليّ أكثر من خوفه على نفسه، ولكنّني عرفت، فوضعت نفسي مكانه، وأمسكت دموعي، وزرته لأجد ضحكته تملأ المشفى، وظننتُ لساعات بأنّني المريض لا هو، وحين داعبه حبيبنا الثالث أحمد سلامة بأنّه سيطلق دخان سيجارة في وجهه، ردّاً على ما كان من أبي عامر قبل سنوات، أجاب محمد: لا تخافوا: سأدفنكم جميعاً لأطمئن عليكم، وبعدها سأرحل!
محمد يستعين على لحظة الكآبة بالدعابة، وها هو يستعين على لحظات المرض اللعين بالفرح، والقوّة، والسفر، والحبّ، والكرم الباذخ بالعطاء، والجمال الأخّاذ، واللغة السلسة، والأحاديث التي تستعيد “زمال”، تلك القرية الشمالية الني تُطلّ على بيسان…
أبو عامر كتاب حبّ، ولا يليق بالحبّ النقيّ سوى أن يُقابل بالعشق، وهو الآن في رحلة شفاء بإذنه سبحانه تعالى، وسنكتب له حين نسمع صوته يُلعلع قريباً: كانت أزمة عابرة، ونعود للسهر، والسفر، وأصارح نفسي قبل أن اصارحه: أنت جميل، والله يحبّ تعبير جماله على الأرض، وللحديث بقية…