في كياسة الخصومة وادب الخطاب
د. محمد حيدر محيلان
24-08-2023 07:26 PM
من ادب وكياسة الخصومة ان لا يفجر المرء ولا يظلم ولا يَبْهُتْ الخصم، بل يتصرف بسلوك متزن وهاديء، ويطرح خصومته وحجته بمنطوق حكيم والفاظ لطيفة من غير لمز او همز او تجريح.
وان يعاتب بالحسنى لمعرفة سبب الخصومة ، وليس من الادب والخلق والدين لمن جاءه فاسق بنبأ ان يغضب لمجرد سماع ذلك الفاسق وتصديق كلامه، لأن من حمل لك وأتاك بنميمة سوف يأخذ عنك ، فقد رضي ان يكون فاسق وحمال سفاهة فلن يمنعه ان ينقل عنك صدقا او كذباً شيء، لانه قبل ان يتخلى عن مروئته امامك، فكيف ستعود له أمام غيرك، !؟ فشهوة الكلام وعلك الغائب ونهش اعراض الناس تستحثه وتنشط لديه مجرد الخلوة بالاخر .. تلك بلوى وابتلاء ومرض، يمكن التخلص منه بالتوبة والعودة لأخلاق المؤمنين وأصحاب المروءات .
ولا يتأتى هذا الا لصاحب خلق ودين وأصالة، ويغفل عن ذلك الجاهل والمنافق وكثير الهذر، وناقص القدر والمقدار.
وان من اداب الخصومة اذا وقعت فعلاً الهجر الجميل ، ويكون ذلك بالالتزام بعدم التجريح والنيل من الاخر، بل الصمت وترك الاخر، حتى يعود لرشده، او يصل للحقيقة، وزيف النمامين، وخداع وكذب المنافقين، الذين يتلذذون بالايقاع بين الناس لمرض في انفسهم ، وعلاج ذلك قوة شخصية الخصم في التواصل مع الاخر والعتاب بالحسنى، وفضح كيد المغرضين، وان الكياسة وادب التصرف، واتباع السيئة الحسنة يمحها ويصلح النفوس ويشفي الصدور ،ويذكرني هذا بتصرف الصحابة الاخيار وكيف كانوا يتصرفون بلطف وكياسة وخلق ، ومنه ما وقع بين معاوية وعبدالله ابن الزبير من خصومة، فقد كان لعبدالله بن الزبيـر مزرعة في المدينة مجاورة لمزرعة يملكها معاويـة بن أبي سفيان خليفة المسلمين في دمشق (رضى الله عنهما).. وفي ذات يوم دخل عمال مزرعة معاوية إلى مزرعة ابن الزبيـر.. وقد تكرر منهم ذلك في أيام سابقة.. فغضب ابن الزبيـر وكتب لمعاوية في دمشق، وقد كان بينهما عداوة، قائلا في كتابه: من عبدالله ابن الزبيـر إلى معاوية ابن هند آكلة الأكباد، أما بعد.. فإن عمالك دخلوا إلى مزرعتي فمرهم بالخروج منها أو فوالذي لا إله إلا هو ليكونن لي معك شأن.. فوصلت الرسالة لمعاوية وكان من أحلم الناس، فقـرأها ثم قال لابنه يزيد ما رأيك في ابن الزبيـر أرسل إلي يهددني.. فقال له ابنه يزيد أرسل له جيشا أوله عنده وآخره عندك يأتيك برأسه.. فقال له معاوية: بل خيـر من ذلك.. فكتب رسالة إلى عبدالله بن الزبيـر يقول فيها: من معاوية بن أبي سفيان إلى عبدالله بن الزبيـر (ابن أسماء ذات النطاقين)، أما بعد .. فوالله لو كانت الدنيا بيني وبينك لسلمتها إليك، ولو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق لدفعتها إليك.. فإذا وصلك كتابي هذا فخذ مزرعتي إلى مزرعتك وعمالي إلى عمالك.. فإن جنة الله عرضها السموات والأرض.
فلما قرأ ابن الزبيـر الرسالة بكى حتى بل لحيته بالدموع.. وسافر إلى معاوية في دمشق وقبل رأسه وقال له: لا أعدمك الله حلما أحلك في قريش هذا المحل.
انظر كيف اعاد ، حسن التصرف والحلم والادب، الاخوة بينهم وزاد المودة والاحترام
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾
[ فصلت: 34]
فلو كان رد معاوية عنيفاً وفظاً لسالت دماء، وتقطعت اوصال، وقطعت رؤس، وحقدت نفوس لسنين ، لكن حكمة وحلم معاوية اطفأ نار وغضب ابن الزبير، وأشعل نور ومروءة العرب واخلاق الدين لديه.. ، فكل واحد لديه جانب منير، وجانب مظلم، وتتنازعه ملائكة الرحمة وشياطين العذاب، فأيقض في خصمك الجانب المنير، وأحيي فيه القيم النبيلة، وأعِنُه على شيطانه بحلمك وحكمتك واخلاقك ، فالحلم والهدوء والتغافل والحكمة، تحل اكبر المشكلات، وتعصم من الشرور والقطيعة والاحقاد ، واصحاب الاخلاق هم خير الناس في الدنيا والاخرة.