أتخيلُني سمكة صغيرة في علبة سردين.. ليس معي داخل العلبة إلّا سمكة أُخرى أو سمكتان صغيرتان مثلي.. أتسامر داخل العلبة وأتمدد بلا تمدّد.. لا أستطيع أن أرفع رأسي فالسقف "أوطى من واطي"..! بل السؤال الجوهري: لماذا أرفع رأسي ؟ رفع الرأس لا يتوافق مع كينونتي ولا مع أسباب وجودي!..
قلتُ لكم سمكة صغيرة أنا.. وتعلمون عن ذاكراتي وهي مضرب المثل عندكم.. لم أستمتع بالبحر كثيرًا.. قالوا لي فيما بعد: أنقذناك من حيتان البحر..! وحين سألتهم: من الرجل الشهم الأصيل الذي أنقذني؟ قالوا لي: إنه الصيّاد.. جاء أصلًا من أجل انقاذك ومهنته الإنقاذ!.. وااااااو.. يا لبطولة هذا الرجل! .. قلت ذلك وشبكته بسؤال بريء: ولماذا لا يسمّونه المنقذ، لماذا صيّاد، وما معنى صيّاد؟.. وكانت أول كلمات تأنيبيّة وتهديدية أتلقاها في حياتي ردًّا على سؤالي البريء: انطمْ؛ اخرس؛ سكّر بوزك؛ اقطع ولا نَفَس!.. أدركتُ حينها أنني ارتكبتُ جريمة كبرى بحقّ المنقذ الصيّاد!..
نرجع لعلبة السردين.. هل مشكلتي بسقفها أم بالزيت الذي يحيط بي وكلّما تململتُ؛ أتزحلق.. الوقوف مستحيل.. ولكن كل أمنياتي تتجمع في أمنية واحد فقط: لا أريد سقفًا.. أريد أن أرى شمس الله.. هواء الله.. عوالم الله.. أريد أن أخرج مرّة واحدة فقط خارج العلبة!..
تحققت أمنيتي.. جاء (منقذ آخر) وحطّم سقف العلبة.. ها أنا أتنفس.. والحمد لله.. وضعني المنقذ الثاني في صحن.. وعصر عليّ ماءً حامضًا!..
أنا الآن ممدّد في الصحن.. أتمتع بكامل حريتي بلا نقصان ولديّ جدول أعمال زاخر بالأحلام سأبدأ بتحقيقها بعد ساعة من الآن!..