منذ أن وضع مستشار أمني أجنبي ملاحظة صغيرة باللون الأحمر جوار اسمه، ومسؤولنا العزيز قد فقد حظوظه بالعودة إلى كرسي المسؤولية وتقلّد المناصب، مع أنّ وجوده في مواقع عليا بعينها كان أحيانا ضرورة ملحّة تمليها المصلحة الوطنية العليا وظروف المرحلة!
لم يكن معارضا، ولم يكن راديكاليا، ولم يكن فاسدا - وكأنّ الفساد كان يوما مشكلة! - ولم يكن صاحب نزعة محافظة تزداد تزمّتا مع التقدّم في العمر.
مشكلته كانت أنّه لا يجلس وفي عينيه نظرة انبهار وتبعيّة وانسحاق واستجداء لأي نظرة رضا أو عبارة إطراء عندما يجتمع بمسؤول غربي أشقر..
مشكلته كانت أنّه لا يتحدث الإنجليزية، ولا يطعّم حديثه السلس الحلو المتدفق بمصطلحاتها الرنانة وعباراتها المنمقة، مع أنّه يتقنها أكثر من غالبية المسؤولين والمتثاقفين الذين يرطنون بها..
مشكلته كانت أنّه صاحب عقل نقدي يتناسب مع اللقب الأكاديمي الذي يحمله وليس مجرد "حامل كرتونة"..
مشكلته كانت أنّه يوقّع ولا يبصم، ويناقش قبل أن ينفّذ..
مشكلته كانت أنّه يؤمن بالتنمية لا بالتحوّل، وبالتراحم قبل التعاقد، وبالمجتمع الأهلي لا المدني..
مشكلته كانت أنّه بحلوه ومرّه، وخيره وشرّه، وطيبته ومكره، وزهده وطمعه.. هو "ابن بلد" حقيقي!
عندما رضخوا أخيرا لصوت المنطق، ونادوه لتوّلي أحد المناصب السيادية من أجل احتواء إحدى الأزمات العديدة التي تشهدها البلد.. رفض! وكعادته لجأ إلى مخزون ثقافته الشعبية لتبرير رفضه: "النذر للدير والوسخ لسمعان"، وكانت هذه طريقته المهذبة ليقول لهم أنّه لا يريد أن يكون "بوز مدفع" أو "كبش فداء" أو "ممسحة زفر"!
طبعا أيّ من أعضاء دائرة صنع القرار الضيقة لم يفهم دلالة مثله الشعبي بحكم ثقافتهم المتغرّبة، واعتبروا رفضه ضربا من التمرّد و"تكبير الراس"، لذا بدأ الذباب الإلكتروني فجأة بتداول إدراجات عبر (السوشال ميديا) تغمز في قناته، وتقرن اسمه تارة تلميحا وتارة تصريحا بقضية إساءة ائتمان كبرى تعود إلى أيام توليه حقيبة الوزارة.
وبعدها بأيام ظهر اسمه في مقال لأحد كتّاب التدخّل السريع مقرونا بقضية تهرّب ضريبي عابرة للحدود، مع أنّه لا يمتلك شركات وهمية مسجّلة في جزر نائية، ولا يمتلك أرصدة سرية قابعة في ملاذات آمنة تحظى بحماية قوى عظمى واتفاقيات دولية.
أبناء عشيرته ومحبوه ومريدوه حاولوا التضامن معه، ولكن الذين دعوا منهم لوقفة احتجاجية تمّ توقيفهم وتوجيه تهمة "تقويض نظام الحكم" إليهم، والذين قاموا بإطلاق "عاصفة إلكترونية" من أجله تم تحريك دعاوى "جرائم إلكترونية" بحقهم.
ولم يهدأ اللغط الدائر حول اسمه إلا بعد أن قضى نحبه في حادث سير مأساوي على "الطريق الصحراوي"، وتمّ نعيه عبر التلفزيون الرسمي، ومنحه وساما رفيعا بأثر رجعي، وتنظيم حفل تأبين مهيب لتعداد مناقبه واستذكار مآثره تحت رعاية رسمية، وإطلاق اسمه على أحد الشوارع الفرعية في العاصمة القديمة، وعلى الشارع الرئيسي الذي يشق قريته الصغيرة القابعة على هامش إحدى محافظات الأطراف البعيدة!