ابو هلالة يكتب : الصحافة في أتون حرب أهلية .. طرابلس نموذجا
ياسر ابوهلاله
25-01-2011 06:19 PM
ليت في سيارة بث الجزيرة فداء للبنان، فاحتراق سيارة بث أو إيذاء صحفي لن يشفي الغل في الصدور. فما يحدث في لبنان هو استمرار لحرب أهلية توهمنا أن جذوتها انطفأت باتفاق الطائف ومن بعده اتفاق الدوحة. مجتمعات غير قابلة للقسمة ولا تقبل الجمع أيضا. لأسباب تاريخية ولظروف موضوعية راهنة.
ما يهمني صحفيا، ليس تحليل أسباب الحرب الأهلية ولا تقديم حلول إبداعية لم يكتشفها غيري ، بل الدعوة إلى النقاش كيف يمكن أن يعمل الصحفي في هذه الظروف غير المسؤول عنها. فعندما تأسس لبنان لم يكن ثمة جزيرة ، وعندما قامت الحرب الأهلية دفع صحفيون كلفتها من أرواحهم وحرياتهم ولم تكن الجزيرة موجودة.
عندما تأسست الجزيرة عام 1996 كان لبنان في ظل الوصاية السورية، وكانت مراسلة الجزيرة ميا بيضون من الصحفيين المغضوب عليهم ، وحسب ما نقلت لي الإعلامية جازيل خوري أن زوجها الشهيد سمير قصير كان يتلقى استياء جميل السيد، مدير الأمن العام، من صحفيتين هي وميا.
في ظروف الاستقرار التي عاشها لبنان في ظل الوصاية الأمنية السورية اقتصر التضييق على الخارجين عن النص السوري،وتعرضت المؤسسات الإعلامية المناوئة لسورية مثل ال بي سي وإم تي في للاحتواء والاستيلاء، وتعرض الصحفيون في الحياة والنهار إلى التهديد والترويع أحيانا.
ذلك كله مقدور عليه، فالخصم نظام شمولي له منطقه الذي يمكن التعامل معه.
صعد نجم الجزيرة عندما كان العدو خارجيا، في عام 2000 و2006كان ينظر للجزيرة بفخر باعتباها مصدرا أساسيا لتوثيق بطولات المقاومة وجرائم الاحتلال، وفي ظل الانقسام بين فريقي آذار لم تستهدف الجزيرة ، وظلت شاشتها تتسع لرموز الفريقين. ولم تتحول الانتقادات إلى تحريض موتور يهدد الصحفيين.
في حرب تموز ألقى الخلاف السياسي الداخلي العربي بظلاله فاستهدفت قناة العربية من فريق حزب الله باعتبارها امتدادا للسياسة السعودية المعادية لإيران وحزب الله. إلا أن الاستهداف ظل في نظاق الهجوم اللفظي ولم يصل إلى مرحلة العمل . لكن القضية ليست فضائية الجزيرة والعربية ، قطر والسعودية، فاغتيال جبران تويني وقبله سمير قصير كان لدورهما الإعلامي ، وقد دفعا ثمن موقفهما السياسي اتفقنا مع أو اختلفنا.
لا يوجد إعلام محايد في العالم الغربي ولا العالم العربي، يوجد إعلام موضوعي، فلا يمكن فصل المؤسسة الإعلامية عن السياق السياسي للممول، سواء كان غربيا أم عربيا. ولنا أن نرى كيف تغطي البي بي سي والحرة والسي أن أن العالم العربي والإسلامي بعامة والصراع العربي الإسرائيلي بخاصة.
في تونس ، اعتبرت الجزيرة منحازة للشارع على حساب ابن علي، وقبضت ثمن موقفها بعد رحيل الأخير، ولكن لو أنه انتصر على الشارع كيف سيكون وضع لطفي حاج؟ انقسام داخلي بين نظام مستبد وشعب ينشد الحرية من السهل أن تحسب على الشارع. الصعوبة في الانقسام الطائفي كما في العراق عندما حسبت الجزيرة على السنة، وفي لبنان عندما حسبت على الشيعة. ليس مهما أن يكون ذلك صحيحا أو دقيقا. النتيجة واحدة. فالذين أحرقوا سيارة بث الجزيرة عبروا عن غل طائفة على طائفة ، حتى لو كانت السيارة تخلو من أي شيعي وحتى لو كانت قطر بلد سنيا.
وغضب سنة لبنان كثيرا ما شهدناه في شيعة العراق.
لقد عملت في طرابلس والقرى السنية في الشمال أثناء عملي في فيلم " الطريق إلى بغداد" وشاهدت لبنانا آخر غير الذي نشاهده في بيروت والمناطق السياحية. من تلك المناطق خرج " أبو هريرة " مساعد شاكر العبسي( لا أحد يذكر أبو هريرة اليوم !) وآخرون من الذين قضوا في نزال الأميركيين في العراق. وتلك المناطق تشبه قرى الجنوب الشيعية في محافظتها وغياب ملامح التغريب عنها. تماما كما نقص الخدمات الأساسية مثل الكهرباء!وتلك المناطق هي مستودع غضب يسهل تفجيره بأي اتجاه من الأميركيين في العراق إلى الشيعة في الجوار القريب . أو الإعلام ؛ الحلقة الأضعف.
في الحروب الأهلية يظل الإعلام الحلقة الأضعف، فالإعلامي لا يمتلك "حمايات" و"بادي جارد" ومن السهل تصفيته. الصعب أن تصل لقادة الميليشيات الذين يتمتعون بتصفيح وتحصين يعصمهم من الغضب الأهلي.في المشهد السوريالي لوسائل الإعلام ، ومنها الجزيرة ، تتقي غضب الجمهور يسهل تحديد المسؤول. فتلك الجماهير تتحرك بفعل محرض. والسياسيون والأمنيون من السهل عليهم أن يحرضوا على الإعلام، وبدلا من مواجهة الإعلام والتعرض لمحاسبة قاسية يسهل تحميل المسؤولية للجماهير الغاضبة.
في ظروف أقل من الحروب الأهلية مثل الاستقطاب السياسي، يحرض على الإعلام ، ويدفع الصحفيون الثمن. في فلسطين مثلا حرض على الصحفي وائل عصام من العربية عندما كان يغطي حرب غزة. وفي المقابل يحرض على مراسلي الجزيرة في مناطق السلطة في الضفة. والصهاينة فوق الجميع يمارسون القتل والتهديد دولة ومجتمعا بحق الصحفيين .
الأميركيون ابدعوا في التحريض على الإعلام، ولا أنسى يوم اتهمني نائب وزير الدفاع الأميركي وولفتز بالكذب لأني قلت أن الأميركيين اعتقلوا مقتدى الصدر ! يومها كان من السهل على أي جندي أميركي إفراغ ذخيرته في أي صحفي في الجزيرة بناء على تحريض نائب الوزير. وولفتز هو من كذب وحرض، يومها قلت نقلا عن قادة التيار الصدري المحاصرين في المنزل أن القوات الأميركية تحاصر مبنزل الصدر.
لم تكن حياة الصحفيين في العراق من طارق أيوب إلى غيره من عراقيين وغربيين لتهدر لولا التحريض. الذي مراسه قادة سياسيون وأمنيون . اعتقدوا أن كسر المرآة يخفي وجههم القبيحة.
يجدر بالغاضبين من حاكمين ومحتلين وجماهير أن يعاملوا الإعلام كما تعامل سيارات الدفاع المدني والصليب الأحمر والفرق الطبية ، فهي وإن كانت محسوبة على جهات "معادية" فإنها تقوم بخدمة عامة. فمحمد الغنوشي رئيس الوزراء الانتقالي لم يجد غير الجزيرة ليتوجه من خلالها إلى الشعب التونسي. والجماهير أن ضامها محتل أو مستبد فلن يفزع لها غير الإعلام .
مؤسف أن تسمع صوت ماجد عبدالهادي ، وهو الذي كان من الممكن أن يقضي على يد الجيش الأميركي في العراق وقبلها في أفغانستان يستغيث بالجيش اللبناني من الجماهير الغاضبة في طرابلس.لم تكن الصحافة هي من همَش تلك الجماهير اقتصاديا ولا سياسيا، ولا هي التي قوَت طائفة عليها. تلك الجماهير التي خرج من صفوفها أبو هريرة هي ضحية دولة الطوائف التي همشت الجميع لصالح نخب فاسدة في بيروت. ولا شك أن ثمة استقواء طائفيا في لبنان وتلك الجماهير كان من الممكن أن تسمع احتجاجها من خلال الإعلام. لا أن تعتدي على الإعلام لإسماع غضبها.
لا ألوم الجماهير الغاضبة، بل ألوم من وجه غضبها باتجاه سيارة بث تلفزيوني. وتلك النخب لا تجروؤ على إحراق سيارة لتلفزيون المنار ولا صد المعتدين الذين حرقوا تلفزيون المستقبل.لكنها تجرؤ على سيارة بث لفريق لا يملك ميلشيا. ولن يكون يوما جزءا من مليشيا.
كم كنت فخورا وأنا أرى الإعلام يتابع الغضب النبيل في تونس، وكيف توجه في المسار الصحيح ، وكم أشعر بالخجل من مشهد الاحتراب اللبناني حيث تجارة الغضب المشبوهة. وفي النهاية سيخرج الإعلام من المشهد. ليبقى قادة الطوائف وحدهم بدون مرآة تعكس إنجازاتهم الكبرى.
نقلاً عن مدونته ..