هي المدن مثل حبوب القهوة، تلك التي تصل إلى مستوى تمييزها ومعرفة خواصها بعد مرحلة متقدمة من حُبها واختبار آلاف الفناجين من عالمها، ومئات المقالات والأغاني في وصفها، وعشرات الذكريات التي حدثت بجوارها وحضورها وفي المشي قُدما للقائها الذي يصادف معه أن يرافقه لقاء أشخاص..
"نشرب فنجان قهوة"،"نسير نتقهوى؟"،"فيني رقاد نسير نأخد قهوة؟"،كل هذه الجمل المفتاحية لبدء اللقاءات وصناعة الألفة كانت القهوة فيه الشاهد والشهيد !
تقطع حبوب القهوة قبل أن تستقر في فنجانك آلاف الأميال، كذلك أبوظبي تقطع آلاف الأميال من التحقق والسرد ومسارات النمو والتطور، وآلاف الخطوات الجادة في الحفاظ على المتن الأصيل من العروبة قبل أن تستقر في قلبك وذهنك..
هي ليست من المدن الطارئة التي يأتي لها موسم إزدهار وعمار، بل مدينة ساكنة تحتفي كل يوم بعمق جذورها، وتعتني بامتداد عروقها ووارف ورقها ، تشارك أبوظبي طيب ثمارها وجَّناها الفكري مع العالم.. قمة في الأصالة والمحلية ومثلها تماما ضاربة في العالمية ..
إذاً ما هي التركيبة السرية لهذه الإمارة؟ كيف استطاعت أن تكون حاضرة في الثقافة والأدب والحركة الفنية العالمية،وتنافس وجهات سياحة عالمية ولها السبق في الدبلوماسية السياسية،ولها صولات في التعاضد الإنساني، وفي رصيدها جولات هامة من الحراك السياسي الفعال؟ وكيف أصبح قادة العالم يمهرون أهم اتفاقياتهم تحت مظلة أبوظبي؟ كيف استطاعت أن تؤلف بين قلوب المختلفين وتمد الود بين أطراف طال بينهم الصراع؟
لو كان للمدن روح لكانت أبوظبي روحها، ولو كان هناك وصف لمشاعر المدن لوصفت أبوظبي بالمدينة المهيبة، حيث تستشعر بين أبراجها برج شاهق العلو حيث برج أثيري مزروع في السماء حيث هيبة روح الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله، التي مازالت ماثلة في بناء المدينة الإنساني والاجتماعي ،في النهج الذي يكمله الأبناء، في القيم التي تُعلي من الإنسان،في التعاطف الذي يختلط مع كل خطوة سياسية وتغليب القيمة الإنسانية العليا على أي منافع أو اعتبارات اقتصادية.
هناك مساحة خاصة للمدن وهي تكاد أن تكون خط رفيع، في أن تخلق مكانتها دون أن تزاحم أحد، ولا تبتغي به أن تنافس سوى نفسها، نجحت أبوظبي في رسمها وترسيمها!
قبل عام من الآن وأنا أهمُ بتجهيز نفسي لهذه الخطوة الجديدة في خوض تحدٍ جديد في هذه البلاد المطمئنة،أتذكر جملة قالها لي أحد الأصدقاء: " it’s too late to allocate “!!، لكن اليوم أتأكد أن هذه البلاد تكسر كل القواعد في التوقعات، لأنها مصممة للحياة قُدما، فإن كنت بالعشرين أو حتى الأربعين، يمكنك إن تساهم في تصميم حياتك هنا،وتزيد من سرعة اشتباكك بمشروعك ومنجزك،وتشعر أن عليك أن تنافس الوقت في دقته وسرعته وقيمته،وتشعر أن عليك أن تبادلها الود ودا،لكن من الأضرار الجانبية لهذا الحب الكبير أن يصبح ليس بإمكانك العيش في مكان آخر سواها .. مدينة تّجُبُ ما سبقها من مدن !!
أن تقع في غرام أبوظبي هو نتيجة حتمية، وأن تصبح وطنك الثاني هي ليست مصادفة بل أحقية تستوجب عليك في أن ترد الود ودا وأن تنبت في أراضيها نخلا ووردا.. وأن تقع في غرامها مجددا مع كل حراك إنساني ومع كل وثبة سياسية تُُقرب العالم من بعضه أكثر .. مع كل ما سبق نحبها يوما بعد يوم أكثر وأكبر.