هل بدأت "أسلمة الدولة والمجتمع" في تركيا؟
داود عمر داود
18-08-2023 03:24 AM
رغم تواصل وشراسة المؤامرات والمكائد التي تتعرض لها تركيا، على كافة الأصعدة، إلا أنها تسير بإصرار وخطىً ثابتة نحو الهدف الذي تسعى البلاد لتحقيقه، تزامناً مع انتهاء سريان "معاهدة لوزان"، قبل قرابة ثلاثة أسابيع. إذ جرى التوقيع عليها يوم الاثنين، الموافق 23 تموز (يوليو) 1923، وظلت سارية المفعول لمدة 100 عام كاملة.
الإعلان رسمياً عن انتهاء "معاهدة لوزان":
وقد أعلن "مجلس الأمن القومي التركي" رسمياً أن تركيا تؤكد في (الذكرى المئوية لمعاهدة لوزان للسلام أن متطلبات المسؤولية التي فرضها التاريخ على الجمهورية التركية جرى إيفاؤها بدقة). وكأن المجلس يقول أن "فترة دوران تركيا في فلك الغرب" قد ولت وأصبحت جزءاً من الماضي، وأن القيود القاسية التي فُرضت على تركيا، وقبلتها في لحظة ضعف، قد زالت وإلى الأبد، وأن تركيا اليوم ليست كتركيا الأمس.
صحيح أن تركيا لم تعلن يوم الأحد، الموافق 23 تموز (يوليو) 2023، يوماً وطنياً تحتفل فيه كل عام، لكن هذا التاريخ هو فعلياً اليوم الذي تحررت فيه تركيا من "الدوران في فلك الغرب" من خلال "معاهدة لوزان"، وهو يوم تحرر جديد، بالنسبة لها، ربما يجري الاحتفال بذكراه في المستقبل، كيوم استقلال حقيقي بدلاً من الاحتفال بيوم تأسيس "الجمهورية التركية"، الذي جرى في 29 تشرين الأول (اكتوبر) 1923.
بعد "لوزان": حملة لـ "أسلمة الدولة والمجتمع":
استقبلت تركيا مناسبة الإنعتاق من قيود "معاهدة لوزان" بدون ضجيج أو صخب، بل مر ذلك اليوم كغيره من الأيام، رغم الأهمية التاريخية لحدث كانت أجيال من الأتراك تنتظره بفارغ الصبر. لكن يمكن القول أن تركيا استغلت هذه المناسبة لإظهار جانبٍ واحدٍ من الحُلم الذي يرواد حزبها الحاكم.
فقد بدأت البلاد تشهد، منذ أسابيع، حملةً قويةً منظمةً، يبدو أنها مدروسة ومخطط لها، تزامنت مع مناسبة الإنفكاك من "معاهدة لوزان"، دعت على الملأ إلى "أسلمة الدولة والمجتمع". وهو أمر كان من المحرمات الخوض فيه، أيام سيطرة العلمانيين على الدولة، وكان يعتبر مخالفاً للقانون، يقود صاحبه إما إلى السجن، أو إلى حبل المشنقة، كما حصل مع "شهيد الأذآن"، عدنان مندريس، رئيس الوزراء، سنة 1961.
جعل الجمعة العطلة الاسبوعية:
يبدو أن حكومة أردوغان أصبحت أكثر جرأة الآن، بعد فوزه بفترة رئاسية ثالثة، لتحقيق مكتسبات على صعيد "أسلمة الدولة والمجتمع". فقد دعا "علي أرباش"، رئيس الشؤون الدينية، إلى جعل يوم الجمعة هو العطلة الأسبوعية الرسمية في تركيا كي يتاح للناس أداء صلاة الجمعة، معللاً ذلك أن (من حقوق الإنسان حرية العبادة ومنها أداء صلاة الجمعة). ودعا إلى أن يعاد لصلاة الجمعة والخطبة "مكانتهما"، في بلادٍ فيها 90 ألف مسجد، ما يعني قرابة مسجد لكل ألف مواطن. وربما تكون هذه الدعوة من مسؤول حكومي رسمي هي تمهيدٌ لجعل الجمعة يوم عطلة أسبوعية.
دعوة لتطبيق أحكام الشريعة:
بالإضافة إلى إثارة جعل يوم الجمعة عطلة أسبوعية، فقد دعا عالم تركي آخر هو الشيخ خليل كونانكجي، المعروف بموافقه الجريئة ... دعا إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في إدارة شؤون الدولة، وجميع المعاملات. وأورد كأمثلة انه يجب تحريم الربا، والزنا، والسرقة، والقمار. كما طالب بأن يكون أداء القسم على القرآن الكريم، لمن يتولون الوظائف العامة، مستهجناً أن يكون ذلك ممنوعٌ قانوناً. ودعا إلى تمسك جميع المسلمين بالقرآن الكريم والسنة النبوية، مشيراً إلى أن المسلمين كانوا سادة العالم والمنطقة عندما طبقوا الاسلام.
أردوغان يلتقي علماء المسلمين:
ومن جانب آخر، فقد التقى الرئيس التركي أردوغان بوفد من كبار علماء المسلمين، ضم أكثر من عشرين عالماً، ينتمون لدول عربية. تناول البحث في الاجتماع، الأول من نوعه، القضايا العامة الحالية، مثل موضوع اللاجئين في تركيا، وحرق المصاحف في أوروبا، وغير ذلك.
لكن الأمر المهم أن الرئيس التركي اتفق مع العلماء أن يكون اللقاء بينه وبينهم دورياً ومنتظماً، بحيث يلتقي بهم كل ستة شهور مرة. وهذا أمر غاية في الأهمية، وله دلالات كثيرة. فربما أن أردوغان استقطب العلماء كي يُضفي شرعية دينية على إجراءاته القادمة في "أسلمة الدولة والمجتمع"، في المرحلة القادمة. وهو يريد بذلك أن يكون علماء الدين، وخاصة العرب منهم، في صفه وإلى جانبه، لما لهم من حضور ومصداقية، إضافة إلى أن المسلم غير العربي يعتبر المسلم العربي مرجعاً له، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمسائل الشرعية، من باب أن العربي أكثر فهماً للغة القرآن الكريم.
وإذا تم هذا اللقاء الدوري يكون الرئيس التركي أضاف كياناً جديداً، إلى الكيانات الاسلامية القائمة. كيان ربما يكتسب الشرعية، ويصبح هو نفسه مرجعاً في المستقبل، في تحول الدول والمجتمعات. والأهم أنه يبدو أن لدى أردوغان نية صادقة وحقيقية في الاتجاه نحو "أسلمة الدولة والمجتمع"، في بلاده، مع ما يحمله ذلك من تغييرات جذرية على كافة الأصعدة.
خلاصة القول: بين "التغريب" و"الأسلمة":
مع الضعف الذي اعترى شوكة المسلمين، أصبحت أراضيهم الشاسعة الممتدة شرقاً وغرباً، تتعرض من الأطراف في البداية، لحملات الدول الاستعمارية الغربية، العسكرية والثقافية، بهدف نهب الثروات واستئصال الإسلام من صدور الناس فيها. وهكذا كانت هناك هجمات على المجتمعات العربية والمسلمة، سُميت تارة بالغزو الثقافي وتارة بـ "التغريب والعلمنة"، كان هدفها استبدال ثقافة المسلمين بالثقافة الغربية.
أما اليوم، فأصبحت تطلعات المسلمين للعودة إلى ثقافتهم الإسلامية تُسمى "أسلمة الدولة والمجتمع"، أي العودة إلى ثقافة الإسلام. وقد استخدمت بعض الحركات الإسلامية تعبيراً آخر هو "استئناف الحياة الإسلامية"، بعد أن انقطعت لفترات طويلة.
وتشمل عملية "الأسلمة" تغيير الدستور والقوانين، بما يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية. فعملية التغيير ليست بالسهلة، ومن هنا احتاج الرئيس التركي أردوغان أن يكون معه علماء المسلمين البارزين، لأن بلاده مقبلة على مرحلة تغيير جذرية. وهي أول وأكبر عملية "أسلمة" تمر على المسلمين، إذا نجحت فإنها ستصبح نموذجاً يُحتذى، وستفتح الباب على مصراعيه لمزيد من "الأسلمة" في باقي الدول والمجتمعات الإسلامية.