كم هو محزن مشهد الإنسانية في عالم اليوم؟ كم هو مقلق وضع الانسان بين قطبي الرحى الخواء الروحي والفقر الاقتصادي؟ وحين تتأمل المشهد العام للبشرية تجده يغرق في أفكار غريبة عجيبة؛ فلا هي تستطيع ان تحترم الفطرة البشرية التي خلقها الله ولا هي قادرة على مجابهة التحديات التي ابتدعها الانسان، سواء في أوضاعه المادية أم في تدمير فطرته واستقراره؛ وكأن البشرية تجدف عكس التيار بحيث غدا الإنسان في ضياع امام تحديات التفاهة، والفوضى ورغبة الأغنياء في السيطرة وقهر الشعوب، وغدا العالم امام حسابات دقيقة ومصالح نفعية؛ آنية ومست?بلية، وبات الانسان في ضياع بين حسابات الهيمنة والعولمة والتقنية الحديثة التي أبعدته عن ابسط معاني الحياة الطبيعية، وبسبب هذا المشهد القاتم بدأت الأصوات تتعالى وترتفع وتطالب الإنسان أنّى كان أن يعيد قراءة واقعه المعيش على الصعد كلها كي يتبين أن الخواء الروحي بات يشغل حيزا كبيرا في أعماقه وأعماله وحياته وفكره وعلاقاته واقتصاده وتعاملاته وثقافته وأدبه, وكأننا أمام حالة استلاب لا تقيم وزنا لشعوره وأحاسيسه.
فهل يبقى الانسان يكدح ويركض ويخطط ويعمل بلا حساب لهذه الروح التي تطالبه بالتوازن والقناعة واحترام المشاعر الإنسانية، أم أن العودة إليها بات مستحيلا في ظل انحطاط القيم وتقزمها وسلخها عن واقعها ومحاولة بترها وطمسها بحجة إيقاعات الحياة العصرية ومنجزاتها المادية التي أحالت الانسان إلى مجرد أدوات وأرقام صماء لا حياة فيها ولا ماء. فهل تستطيع تلك المنجزات حل مشكلات البشرية وتعدي الإنسان على أخيه الإنسان, فمتى يشعر الناس بهذا الخراب بعد أن أنهكتهم الحروب وسياسات القهر وشيوع الخواء الفكري والشواذ وحقوق الانسان والد?مقراطيات الجديدة وأيدلوجية حقوق المثليين والأقليات!
إن عودة الروح إلى الإنسان وإلى حياته وافكاره وكتاباته وكلماته وحروفه ينبغي أن تكون غاية كي يشعر أن لوجوده وعمله معنى، ولكلماته قيمة، وهذا لا يتم بمعزل عن لغة العصر وحقائقه وتغيراته، وعودة الروح يجب أن تدفعه إلى انطلاقة جديدة تؤمن بالكيفية والنوعية والارتقاء بالفعل الإنساني من خلال فكر منفتح يؤمن برؤية الآخر وثقافته, ثقافة لا تدمر فطرة الانسان ولا تنشر الفوضى والخراب، ثقافة أساسها الإنسان الحقيقي الذي يعيد للأشياء قيمها وجمالها وألقها الدافق بالحياة.
عودة الروح أن يعود الانسان إلى ذلك الزمان الحبيب الذي كان يعرف فيه الفرد قيمة غيره؛ لأنه يحترم نفسه، ويدرك أن كل ما حوله يدفعه إلى الحركة والإبداع والحوار والسؤال والألق والعذوبة ورصد الوعي والانحياز إلى كل هو نبيل بحيث يعيد له وجهه وحيويته وحريته وآفاقه وسماحته وصوفيته وإيمانه المطلق بمبادئه وعقيدته وهيامه بالمعاني السامية التي عرفها عبر التاريخ.
عودة الروح تغذية للعقل والفكر وبديل للحروب والفوضى والجشع الإنساني، ويجب أن تطال الشعوب كلها لبناء سياج إنساني يرفض الهيمنة والبغضاء والكراهية والغطرسة والشذوذ بكل ألوانه وإشكاله، والمآسي لكي يتخلص البشر من آثار الدمار والخراب والظلم، ولنتأمل حالة الشعوب التي تعمل بروح عالية كيف تبني ذاتها وإنسانها ومجتمعها ومؤسساتها، وكيف تحقق إنجازاتها.
عودة الروح يجب أن تعيد فينا معاني التذوق الجمالي الكامل للحياة؛ التذوق بالإحساس الرهيف،فلا نحس في أثناء قراءة العمل الإبداعي أننا أمام طاقة عقلية توقد فينا شعلة الفهم في حين تخبو شعلة التذوق، إذ هناك من يفهم في قصيدة الشعر اللفظ والمعنى والقافية والشرح والتفسير؛ ولكنه لا يستطيع أن يتذوق الوحدة الفنية ولا الظلال النفسية ولا التجربة المصبوبة في بوتقة الشعور، وهناك من يسمع النوتة الموسيقية للحن من الألحان ولا يتذوق جمالية اللحن ولا يهتز فيه روعة الإيقاع، ولا يستجيب لأنغامه التصويرية وقدرة الملحن على إحداث الأ?ر الحقيقي في الإحساس الإنساني، وهذا يعني أن يفهم الحياة ويتذوقها من خلال صفحات القلب وتأثيرات الدفقات الوجدانية التي تعيد التوازن للإنسان، فيعرف حينها طعم الحياة وقيمتها، وعندها لا يفكر كيف يتفنن بقتل البشر وإيذائهم.
وبعد علينا نحن في مجتمعنا أن نعيد الروح إلى مؤسساتنا وجامعاتنا ومحاضراتنا وطلابنا وأعمالنا وطموحاتنا، علينا أن نرد الاعتبار إلى شبابنا وصحافتنا ووسائل إعلامنا، علينا أن نستوعب الدروس المحيطة بنا لإعادة صياغة مفاهيمنا وقوانيننا وعلاقاتنا كي لا نعود إلى الوراء؛ إذ يكفي ما آلت إليه جوارحنا وثقتنا ببعضنا بعضا؛ فليكن الخير سبيلنا ولنؤكد دائما على جمال الفطرة وبساطتها ونهتف؛ مع عبيد بن الأبرص:
تذكرت أهل الخير والباع والندى/ وأهل عتاق الجرد والبر الطيب
فهل نستفز قوى الخير والذاكرة ونعرف معنى أن تكون أرواحنا عامرة بالحب والحياة، ونلهج مع ابن زيدون:
عاودت ذكرى الهوى من بعد نسيان واستحدث القلب شوقا بعد سلوان
علينا أن نعود إلى مجالسنا وأوراقنا وأعوامنا التي انقضت حتى نعرف أين الزلل والخلل، فهل نعي ضرورة عودة الروح إلى النفوس المتعبة كي لا يستمر السقوط والغوص في الوحل والسكون المطلق؟.
mohamadq2002@yahoo.com
الرأي