يعكس الحراك السلمي الأسبوعي واسع النطاق ضد شظف العيش وأدوات إدارة الدولة حدّة الغضب السياسي والاجتماعي بعد أن بانت هشاشة وعود الإصلاح وتحقيق العدل المجتمعي فيما تعمقت مظاهر استهتار السلطات والمؤسسات بالمواطن وكرامته.
ولا يبدو أن الاحتجاجات الشعبية الدائرة منذ أسبوعين ستتراجع قبل تحقيق عنوانها الأكبر المتمثل بإسقاط الحكومة. ذلك أن منظميها يعتقدون أن تغيير الحكومة سيفتح الباب أمام تغيير النهج وإطلاق مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية المطبّقة منذ عقدين, رفع سقف الحريات السياسية والإعلامية فعلا لا قولا, ما يفضي إلى تجديد المؤسسات, القوانين والنخبة الحاكمة كما يضمن أمن المملكة واستقرارها, وسط محيط مضطرب يخضع لديكتاتوريات منذ عقود.
وقد تنتقل الحشود الجمعة المقبل من قاع المدينة إلى دار رئاسة الوزراء, مدعومة بمسيرات قصبات المحافظات ضمن سياسة توسيع رقعة الاحتجاج الجغرافية والديمغرافية.
فالشارع المقسوم تسيّس وأخذ زمام المبادرة. الناس صاروا أكثر وعيا لمصالحهم. باتوا يدركون أن النهج المتبع في تشكيل الحكومات وإدارة الحياة السياسية في البلاد من خلال لعبة تبديل الوجوه مع تحسينات محدودة, لم يعد قابلا للاستمرار. الهياكل التنظيمية للأحزاب, النقابات ومؤسسات المجتمع المدني تبدو عاجزة عن تأطير الزخم الشعبي والمطالبة بتجديد الدم في عروق الدولة الأردنية, بعد أن نجحت الحكومات المتعاقبة في احتوائها, إفسادها أو حصارها وتجريف التربة السياسية والاجتماعية المفترض أن تنمو فيها.
لذا يسعى منظرو الحراك المجتمعي الجديد إلى خلق بيئة قادرة على تشكيل حركة جامعة تؤطر ضمن برنامج عملي قابل للتنفيذ على أمل إحداث التغيير المطلوب وإرساء قواعد دولة المواطنة; "كلمة السر التي تحرك الناس", بحسب أحد نشطاء الحراك المجتمعي.
فرسالة الشارع تزداد وضوحا في فضاءات الانترنت. لم يعد الإعلام المرعوب, الرسمي والخاص قادرا على تجميل الواقع واسترضاء الحكومة على حساب الوطن. ولم يعد الاحتجاج السياسي شأنا يخص فئة من المجتمع كما في السابق, عندما كانت شرارة الاحتجاجات تنطلق من الجنوب لتعم مناطق أخرى.
وقود الحراك اليوم هو شعور متنام لدى غالبية الأردنيين, بغض النظر عن "الأصل والفصل", بأنهم جميعا باتوا "أصحاب حقوق منقوصة" بسبب ممارسات أقلية متنفذّة تتحكم بالبلاد وتعمل على تقسيم الشارع عبر استحضار العصبيات بأشكالها كافة من باب "فرق تسد". يطلقون على هذه الأقلية "مؤسسة فساد" باعت مقدرات الوطن وأصوله. أبطالها رجال ونساء يمثلون طبقة جديدة تهيمن على مراكز النفوذ ومؤسسات الدولة, وتعمل على أسس تبادل المصالح والمنافع الضيقة على حساب الغالبية من دافعي الضرائب. استغلت هذه الفئة ظروف العولمة الاقتصادية التي فتحت فرصا استثمارية غير تقليدية لتحقيق أرباح سريعة من خلال تغيير التشريعات وزرع عملائهم في المناصب لتسهيل تمرير مصالحهم المشتركة.
الشارع يريد أن تدفع هذه النخب ثمن العجز الخطير في الموازنة وارتفاع نسب الدين العام بدلا من تحميل المواطن "الغلبان" ثمن الإصلاحات الاقتصادية ومشاريع وهمية عبر رفع الأسعار والضرائب. فغالبية الشعب لم يستفد من هذه العوائد ولم يتحسن وضعه المعيشي بينما يستمر إضعاف دولة المؤسسات والقانون ومحاولات تقسيم الشارع على وتر العصبيات المقلقة.
تضم قوى الحراك المجتمعي الجديدة هيئات وجمعيات وروابط بما فيها التيار القومي التقدمي في الأردن قيد التأسيس, اتحاد الشباب الديمقراطي, حركة اليسار الاجتماعي, لائحة القومي العربي, التجمع الشبابي الشركسي الأردني, المبادرة الوطنية الأردنية, رابطة الكتاب, الجمعية الفلسفية الأردنية, منتدى الفكر الاشتراكي, اللجنة الوطنية لإحياء نقابة المعلمين/عمان وغيرهم.
يتشارك مع جوانب كثيرة من مطالبها الاجتماعية متقاعدون عسكريون وقضاة ومعلمون تحولوا إلى خندق المعارضة بعد أن كانوا جزءا من الموالاة التقليدية لعقود قبل أن يختاروا مواجهة حكومة الرفاعي بسبب إخفاقها في تحسين أوضاعهم المعيشية, لجوئها لتمرير قانون مؤقت لاستقلال القضاء ومنع المعلمين من تأسيس نقابة.
هذا الخليط الجديد يقف وراء إطلاق فكرة يوم "الغضب الشعبي" قبل أسبوعين كاشفا في بعض جوانبه "انتهازية" رجال السلطة, النواب, النقابات المهنية وأحزاب معارضة تقليدية, بما فيها الإخوان الذين يسعون بكل الوسائل الممكنة لحماية مكتسباتهم ونفوذهم. وهو يقف ضد استمرار سياسات الأمر الواقع وتسكين الآلام بدل البحث عن الأعراض الحقيقية.
لكن التحدي الأهم يكمن في فرص تحويل هذه المطالب الاحتجاجية الواسعة إلى سياسية بامتياز يعبر عنها تيار متماسك قادر على إحداث التغيير في غياب رمز من صفوف المعارضة أو الأحزاب, مؤهل لأن تلتف الجماهير حوله وتتوحد على برنامج توافقي. التحدّي الآخر سيأتي لا محالة من الأحزاب السياسية والنقابات التي قررت الانضمام إلى مسيرات الجمعة, لكن عبر رفع رايات وشعارات عمل خاصة بها قد لا تستطيع توفير وعاء جامع لأكبر عدد ممكن من المحتجين. فشعاراتها تسمع فقط لدى أعضائها ومريديها. كما أن هناك خلافا تاريخيا حول الاتفاق على برنامج عمل سياسي تصعيدي موحد بين اليمين واليسار.
تعدد أولويات وشعارات الحراك الشعبي والسياسي المنظم سيساعد الحكومة وغيرها من الجهات المؤثرة على تشتيت زخم الصوت الاحتجاجي.
هذا ما حدث الأسبوع الماضي حين قرّر الإخوان المسلمون ومجلس النقباء الاعتصام أمام مجلس النواب بعد أن اختاروا عدم المشاركة في مسيرة "يوم الغضب" الأولى قبل تسعة أيام. بعد ركوب موجة التململ الشعبي المتصاعد, أضاف المحور الحزبي-النقابي هدفا آخر; حل مجلس النواب بعدما طالبوا بإقالة الحكومة. وبعدها عقد التيار الإسلامي مؤتمرا صحافيا لكشف 70.000 اسم وهمي, ادعّى أنهم شاركوا في الانتخابات الأخيرة.
بذلك دخلت القوى النقابية المنقسمة بين تأييد الحكومة ومؤازرة الشارع والأحزاب السياسية - بعنوانها العريض الإسلام السياسي- في مواجهة مع مجلس النواب ومع الحكومة بعكس الحراك الجماهيري الذي يرى أن المشكلة مع الحكومة وسياساتها.
الخشية اليوم من استعار معركة عنوانها "من يسيطر على الشارع ويقوده".
فالتيار الإسلامي يريد تصفية حساباته مع الحكومة بعد أن اختار تغييب نفسه عن "النيابي" احتجاجا على قانون الدوائر الوهمية, وأيضا بسبب خلافات داخلية خطيرة تعصف بوحدة الحزب على خلفية إقليمية. ويتوقع أن يسعى إلى تحويل الحراك الشعبي إلى إطار منظم بدافع الانتقام, مع أن شعار "الإسلام هو الحل" لا يروق للكثيرين. لهذا دفع يوم الجمعة بأكثر من أربعة آلاف مشارك في مسيرة عمان, التي حاول فيها مؤيدو اليسار البقاء بعيدا عن مناصري التيار الإسلامي.
الحكومة تتحرك في محاولة لتنفيس الاحتقان وتشتيت الحراك وشراء الوقت لإطالة عمرها في الدوار الرابع لأنها تدرك بأن صاحب القرار لا يرغب في إقالتها الآن لكي لا يسجل سابقة.
الرفاعي كسب النواب إلى صفّه حين رفع معاشات الموظفين والمتقاعدين بواقع 20 دينارا بعد أن صدع للأوامر الملكية وخفّض أسعار سلع أساسية وألغى بعض الضرائب, كما فتح الباب أمام التوظيف في الجهاز البيروقراطي المترهل في استدارة 180 درجة عن موقفه الأساسي.
وفي ممارسة استثنائية معاكسة لأسلوب التعمية الإعلامية, ظهر وزراء في حكومته في مناظرات تلفزيونية مع قادة حزبيين - يسار وإسلامي - ضمن معركة تشتيت الجهد والتخاطب مع الرأي العام التائه.
مواقف رئيس مجلس النواب تساند الحكومة. إذ أخذ على عاتقه ملف التعاطي مع الأحزاب, المعلمين والإعلام في محاولة لتسليك الطريق بين الدوار الرابع وهذه الفئات المؤثرة. نسيت السلطة التشريعية أنها مسؤولة عن التشريع ومراقبة أداء الحكومة إذ بدت وكأنها شريكة في السلطة التنفيذية.
سيتواصل الجهد الرسمي في تفتيت الحراك المجتمعي.
وفي حال حصلت معجزة وتكاثر الحراك المجتمعي, سيأتي يوم يفرض فيه سجال الهوية المقلق الذي يعكس مخاوف جذرية ومطالب مصلحية للمكونين الرئيسيين في المجتمع, من خلال عنوان جديد اسمه تفعيل العقد الاجتماعي.
على أي حال, يأمل منظرو الحراك المجتمعي وأعضاء الأحزاب السياسية في أن يتشجع صاحب القرار خلال الأيام المقبلة على إحداث المراجعة الضرورية للسياسات.
فالحل يكمن في تسمية شخصية وطنية وفريق وزاري بخبرة تنفيذية وإجراء مراجعة للسياسات الاقتصادية منذ عام ,1989 ووضع قانون انتخاب توافقي, وصولا إلى إجراء انتخابات نزيهة وبدء مرحلة الانتقال إلى حكومات برلمانية ضمن مبدأ التداول السلمي للسلطة وعودة المعارضة إلى قبة المجلس بدلا من بقائها مبعثرة في الشارع.
فالمعركة تدور الآن حول تغيير النهج وليس تدوير الأشخاص والكراسي.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
(العرب اليوم)