مجلس أعلى للتنشئة الوطنية
د.عبدالله القضاة
12-08-2023 08:15 PM
تمثل المواطنة بنية شاملة تتألف من شبكة من العلاقات والعوامل التي من شأنها تنظيم علاقة الفرد بالدولة بطريقة تعمل على توليد الإحساس بالأمان وإيجاد حس الانتماء للوطن في أعماق نفسه، الأمر الذي يعني أن المواطنة لا تعبر عن حالة جغرافية بيئية اجتماعية أو عرقية أو دينية فحسب، بل عن حالة نفسية لدى المواطن أيضا، إذ تعمل على تعزيز هويته الوطنية الواحدة من خلال التنشئة الوطنية التي ترسخها الدولة من خلال النشاطات المنهجية واللامنهجية التي تعمل على تنفيذها أجهزتها ومؤسساتها بشكل مدروس ومتكامل.
التنشئة الوطنية تعد من الموارد الأساسية لتحقيق أمن وإستقرار المجتمع وهذا يتطلب من المملكة في مئويتها الثانية أن تطبق هذا المفهوم بشكل علمي ومؤسسي و ذلك لأهميته في بناء الأجيال وتوجيههم نحو تحقيق رؤيتها الإستراتيجية.
في الأردن يتم تطبيق التنشئة من خلال التوجيه في المدارس و الجامعات عن طريق البرامج و المناهج المتبعة فيها أو عن طريق المدرسِّين الذين يجب أن يعلموا واجباتهم تجاه طلابهم و وطنهم عبر تفعيل مبدأ الوطنية، وهناك جهات حكومية اخرى تدعم هذا المفهوم ومنها وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية من خلال إقامة المراكز الصيفية لتحفيظ القرآن الكريم والتي تهدف إلى تعليم قراءة القرآن الكريم وترسيخ القيم والآداب القرآنية، لدى الطلبة لتصبح عنواناً للمجتمع بأفراده صغاراً وكباراً، والمساهمة في تنمية جيل ديني وأخلاقي وثقافي ووطني، حيث أن القرآن الكريم شامل وعام للناس، كما تقوم وزارة الشباب بدور من خلال معسكرات وبيوت الشباب والمراكز الشبابية المنتشرة في كافة محافظات المملكة.
والسؤال الذي نأمل أن يصل لأصحاب القرار في الدولة: هل هذه الجهود كافية لتحقيق التنشئة الوطنية المنشودة؟ وهل هناك رؤية موحدة تلتزم جميع الجهات المعنية بالتنشئة الوطنية بتنفيذها؟ وهل توجد مرجعية مؤسسية موحدة تضمن تكامل الجهود وتنسيقها بشكل يحقق هذه الأهداف بكفاءة وفاعلية؟ ثم ؛ من هي الجهة الوطنية التي تقيس أثر برامج هذه الجهات في تحقيق المستهدفات الوطنية ضمن الفترة الزمنية للخطة الوطنية؟
مع التقدير لكافة الجهات الحكومية التي تحقق أهدافها وفق التشريع الناظم لعملها وإمكانياتها المالية والإدارية ، إلا أنه يمكننا القول أن هذه الجهات تعمل في غياب سياسة وطنية موحدة للتنشئة تحدد المحتوى الفكري والعلمي الذي يستهدف جيل الشباب وفق مستوياتهم العمرية والثقافية ؛ سواء كانوا على مقاعدهم المدرسية أو الجامعية ضمن مناهجهم الرسمية أو من خلال الأنشطة اللامنهجية التي تستهدفهم خارج أوقات التعليم الرسمي .
تكمن خطورة تشتت جهود التنشئة الوطنية في زيادة عدد سكان المملكة ونسبة الشباب حيث بلغ حتى منتصف العام الحالي 11.4 مليون نسمة وفق المصادر الرسمية، منهم 40% في سن الطفولة - دون سن 18 سنة (وبحجم 4.6 مليون طفل)،ونصف سكان الأردن دون سن 22 سنة. إضافة إلى تنامي التحديات المتشعبة التي تستهدف الشباب في فكرهم وسلوكهم ؛ فالأفكار الغريبة غدت عابرة للحدود بفضل العولمة وتدني كلفة وسائل التواصل الإجتماعي لدى فئة الشباب ، وكذلك إنتشار ظاهرة المخدرات في البيئات المجتمعية بالاردن فقد بلغ معدل ارتكاب جرائم المخدرات في الأردن 16 جريمة لكل 10 آلاف نسمة في العام الماضي، مقارنة مع 17 لكل 10 آلاف نسمة في العام 2021، و19 في العام 2020. رغم الإجراءات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية لمكافحة مثل هذا الآفة بين أفراد المجتمع. وهناك بالتأكيد العديد من الآثار السلبية لمثل هذه الظواهر على مستقبل الشباب وبالتالي المجتمع الأردني بأسره.
وفي ضوء ذلك اقترح إنشاء مجلس أعلى للتنشئة الوطنية برئاسة سمو الأمير غازي بن محمد، كبير مستشاري جلالة الملك للشؤون الدينية والثقافية وعضوية وزراء الأوقاف والتربية والتعليم والثقافة والشباب والتنمية الإجتماعية والإتصال الحكومي وممثلين عن القوات المسلحة الأردنية ؛ مديرية الثقافة العسكرية، ومديرية الأمن العام، وممثلين عن رجال الدين المسيحي، إضافة لممثلين عن الإعلام الرسمي والخاص والجهات المثيلة في القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني.
وتكون مهمة المجلس الرئيسة إقتراح السياسية الوطنية للتنشئة ورفعها للحكومة لإقرارها ومتابعة تنفيذها ضمن برامج زمنية محددة من كافة الجهات المعنية بشكل متناسق وضمن محتوى وطني معتمد يركز على القيم الإنسانية والثوابت الوطنية للدولة المدنية؛ ومن ذلك احترام تعددية المجتمع وقبول الآخر وترسيخ مبادئ التسامح والمواطنة وسيادة القانون ، وتكون رسالة عمان ضمن المرجعيات المعتمدة للمحتوى الوطني للتنشئة، ويمكن أن يشرف المجلس من خلال لجنة تنفيذية على برامج وطنية شمولية تستهدف جميع شباب الوطن في كافة محافظات المملكة ووفقا للمستويات العمرية والثقافية وتوجيه وسائل الإعلام بكافة أنواعها لتكون فاعلا رئيسيا في عملية التنشئة لتكمل أدوار المؤسسات الأخرى ضمن فريق وطني متكامل.
أن تطبيق هذا المقترح من شأنه توحيد مدخلات التنشئة الوطنية وبرامجها بحيث ينعدم التناقض بين مخرجات كل جهة؛ فما يتلقاه الشاب في الأسرة تؤكده دور العباده وتعززه المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام والمراكز الشبابية والصيفية؛ وبالتالي نضمن جيلا مؤمنا بربه منتميا لوطنه ضمن قيم إنسانية تؤمن بالتعددية وقبول الآخر بعيدا عن التطرف والإنغلاق ؛ وقادرا على ولوج العمل الحزبي بفاعلية ومبادرة إيجابية في المشاركة وتبني برامج وطنية واعدة.
* أمين عام وزارة تطوير القطاع العام/ مدير عام معهد الادارة العامة سابقا