مركز طبي عربي لدعم التخصص
د. جواد العناني
10-08-2023 12:14 PM
البروفسور الطبيب عمر محمود لطوف جراح قلب شهير، عمل أستاذاً وجراحاً لعمليات القلب في جامعة " إيموري" بمدينة أتلانتا عاصمة ولاية جورجيا الأميركية. وهو دائم التفكير في الطريقة التي يخدم بها بلده الأصلي الأردن، والوطن العربي برمته. وقد جاء خلال عقد التسعينات إلى الأردن حيث أقام عدداً من السنوات يجري عمليات معقدة حققت له شهرة واسعة.
قبل أيام قابلته في عمان، حيث يأتي للزيارة وإجراء بعض العمليات، وتجاذبنا أطراف الحديث عن مستقبل الرعاية الصحية والعلاج الطبي في الوطن العربي. وأشار في حديثه إلى أن هناك عشرات الآلاف من الأطباء ومن أصحاب المهن الطبية المساندة العرب الذين يعملون في الولايات المتحدة.
وقد قرأت في تقرير صادر عن المركز العربي في واشنطن يوم السادس والعشرين من شهر نيسان/ ابريل لهذا العام 2023 يقول فيه إن تقديرات نقابة الأطباء المصرية تقدّر عدد الأطباء المصريين الذين استقالوا من العمل في الحكومة بعشرة آلاف خلال الفترة 2019-2021. أو بمعدل ثلاثة آلاف وثلاثمائة كل سنة. ويقتبس التقرير نصاً جاء على لسان ممدوح الجندي النائب في مجلس الشعب المصري أن (110) آلاف طبيب مصري قد غادروا مصر خلال الفترة منذ العام 2019.
والأردن ومصر ودول عربية أخرى تُخرِّج آلاف الأطباء العامين كل سنة، ما سبب بطالة بين هؤلاء الأطباء في تلك الدول. والأردن، البلد الذي يبلغ عدد سكانه المواطنين حوالي 11 مليونا عنده أكثر من عشرين ألف طبيب يبحثون عن عمل، وأكثر من ( 15) ألفاً يدرسون الطب خارج الأردن، في الوقت الذي تعاني فيه هذه الدول من نقص أطباء الاختصاص في مجالات متعددة مثل أمراض الجهاز التنفسي، والجهاز العصبي وأمراض القلب والسكري والسرطان.
ولا ينتهي النقص عند الحديث عن هذه التخصصات بل يتعداه إلى الاختصاصات الطبية الجديدة مثل الخلايا الجذعية وعلم الصيدلة والدواء وما يجري عليها من دراسات لفحص فاعلية الأدوية. وهناك أمراض الحساسية والربو، والآفات الجرثومية.
هذا التباين في زيادة عدد الأطباء الخريجين حديثاً والأطباء المختصين الناقصين عدداً يقابله تراجع في فرص التخصص المتاحة في الدول المتقدمة طبياً. وصار الآلاف من خريجي كليات الطب في الوطن العربي يعانون الأمرين من ندرة الفرص المتاحة، والأنكى من ذلك أن الأطباء الذين يُختارون للتخصص في أوروبا والولايات المتحدة مرشحون للبقاء هناك حيث تفتح أمامهم فرص تطوير مقدراتهم ومهاراتهم، واكتساب المهارات التكنولوجية الحديثة سواء في العلاج عن بعد، أو التشخيص أو حتى إجراء عمليات واقعية عبر العالم الافتراضي.
ولذلك يثور السؤال: ما هو الحل الأنجع لهذه المعضلة؟
تذكرت أنني والدكتور عمر لطوف كنا قد تناقشنا في هذا الموضوع قبل خمس عشرة سنة من لقائنا الأخير وتوصلنا ( بفضل منه أكثر مني) أن نسعى لكي نضم جهودنا معاً ( الطبيب والاقتصادي) لكي ننشئ مؤسسة رفيعة المستوى تفتح الفرص أمام الأطباء العرب لكي يتخصصوا فيها على مختلف أنواع الفروع الطبية والعلاجية، وذلك وفق جدول للأولويات يبدأ بأمراض الأطفال المزمنة والسرطان وأمراض القلب والروماتزم، ثم السكري وغيره.
ويكون المركز منفتحاً على البحوث العلمية في مختلف التخصصات الطبية، وقد بذلنا جهوداً لمدة سنة أو أكثر ولكننا بسبب نقص التمويل وعدم التحفيز وانشغال كل منا بعمله الخاص تخلينا عن متابعة الفكرة، وهذا أمر أقر كلانا في جلستنا الأخيرة قبل أيام أنه كان خطأ جسيماً، وكان يجب أن نظهر ايماناً أقوى بنجاعة الفكرة وأهميتها. ولذلك قررنا أن نعيد إحياءها.
وهناك مبادرات طبية ومؤسسات علمية عريقة كثيرة في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا يمكن التواصل معها. ونحن نقر أن مثل هذه التجمعات تهيئ الفرصة بشكل أفضل بكثير من السابق في هذا المجال.
فمن ناحية هناك التعلم عن بعد ومن أحدث الأساليب التدريسية ثلاثية الأبعاد والتي يمكن استخدامها لخلق التواصل بين المتدربين في الوطن العربي من ناحية ومدربيهم القاطنين في الدول الغربية من ناحية أخرى.
وثانيها، أن مشروعاً يمكن أن يجذب كثيراً من الأطباء العرب والأجانب للعمل فيه لمدة سنة أو أكثر لكي ينوعوا خبراتهم، ويشعروا أنهم سددوا بعض الدين الذي يدينون به لأوطانهم التي علمتهم، وعندما نضجوا وأصبحوا جاهزين للخدمة انتقلوا إلى دول أخرى غير دُوَلهم لخدمتها.
وثالثها، أن كثيراً من الأطباء الأجانب البارعين في الغرب من يرغب في العمل خارج بيئته لينوع خبراته ويعمق مقدراته بالتعامل مع مرضى من ثقافات وحضارات غير التي ألِفها وتربى عليها.
كثير من الأطباء الأجانب البارعين في الغرب من يرغب في العمل خارج بيئته لينوع خبراته ويعمق مقدراته بالتعامل مع مرضى من ثقافات وحضارات مختلفة
ولذلك، فإن المواد العلمية ووسائل التعليم المباشرة أو الافتراضية أصبحت الآن متاحة، وكذلك توفر الخبرات القادرة على تزويد الأطباء العامين بما يحتاجونه من علم نظري وخبرة عملية لكي يختصوا محلياً بدلاً من السفر إلى الخارج، أو عوضاً عن الفرص غير المتاحة لكثير منهم في دول الغرب.
ولكي يكون المشروع ناجحاً، فإن المطلوب تضافر جهود عدد من الدول العربية في هذا المجال. ولكن يجب اتخاذ قرار سياسي من كل الدول الراغبة في المشروع لكي تسير فيه وتشكل لجنة مختصة من أطباء ومستثمرين وماليين لكي يقوموا به. ومثل هذا المشروع يتطلب في بداياته رأسمال كبيرا قد يصل إلى مليار دولار على مدى خمس سنوات أو أكثر، ويكون مركزه في دولة عربية من المفضل أن تتوفر لها القدرات المالية على تجسير أي فجوة مالية في المستقبل.
وقد يتساءل البعض عن الجدوى الاقتصادية لمشروع كهذا، والواقع أن الجدوى الاقتصادية والمالية والاجتماعية لهذا المشروع هي أكبر بكثير من ألا ترى أو تلمس. فنحن نصرف الآن مبالغ طائلة في الوطن العربي على علاج المرض (خاصة الأمراض المزمنة) في دول غير دولنا، وكذلك، فإننا نفقد مليارات الدولارات الماثلة في قيمة الاستثمار في رأس المال البشري والتي لا تعطينا مردوداً. والأهم من ذلك كله أنها توفر للعرب أطباء مهرة نحن في أمس الحاجة إليهم.
ولو نظرنا إلى إحصائيات المرضى بالسكري، والكلى والقلب والسمنة والأعصاب والأمراض النفسية الجسدية والأطفال المصابين بالسرطان، ونوعية التغذية في عصر الكسل والاعتماد على الأطعمة الجاهزة التي لا يتطلب إعدادها جهداً إلا ضرب رقم الهاتف المطلوب، فإننا بحاجة إلى خلق مناخ علاجي صحي متميز.
ويجوز للمركز أن ينشئ فروعاً له في الدول العربية المشاركة في المشروع. فهناك إبداعات عربية قائمة يمكن التعاون معها. فالأردن مثلاً مبدع في معالجة السرطان وأمراض السكر، والبحث في الخلايا الجذعية، وفي عمليات القلب المفتوح. وهناك دول عربية مثل السعودية وقطر والإمارات ومصر ولبنان فيها تخصصات متميزة، وإن كان بعض هذه الدول كالأردن ومصر ولبنان قد فقدت الكثير من أطبائها للعالم الآخر.
وبالطبع، يجب أن يمتد التعاون إلى دول متميزة في آسيا وأخص بالذكر الهند والصين واليابان والتي يمكن أن تبدي استعداداً أكثر للتعاون معنا في مجالات كثيرة مثل التغذية السليمة، والتمارين الرياضية والأطراف الصناعية والذكاء الاصطناعي، وغيرها من التخصصات التي توفر لنا وسائل مبتكرة في العلاج.
ما مَرّ به الوطن العربي من ويلات وهجرات وحروب وأمراض في السنوات الأخيرة، وفي كثير من أقطاره. يجب أن ينبهنا إلى أن انفاقنا المستقبلي على قطاع الصحة سيكون أكثر من تريليون دولار في السنوات القادمة. وأن توطين الكفاءات والمهارات والقدرات، سيجعل معظم هذا الانفاق داخلي وسيعود علينا بنفع مزدوج وهو توفير خدمات صحية متميزة تزيد من كفاءة الأفراد ومقدراتهم، وتوفر علينا بلايين الدولارات التي ستنفقها على الاستثمار وخلق فرص العمل للمواطن العربي.
"العربي الجديد"