لا يختلف اثنان على أن التميز مطلب ثمين يطمح له الأفراد والجماعات والمنظمات والمجتمعات بشكل عام؛ ولا يقتصر الحديث عن التميز لدى مبادرات القطاع الخاص وتميزه في قطاع الأعمال، وإن كان القطاع الخاص هو أول من نادى بمفاهيم التميز للاستحواذ على الأسواق وجذب مزيد من العملاء ، إلا أنه ليس ترفا أن تتبنى الإدارات الحكومية أيضاً مفاهيم التميز -وإن كانت تنفرد في بعض الأحيان في تقديم خدمات احتكارية نظراً لطبيعة وسياق عملها- ولا نبالغ القول أن قطاع عام هو الأولى أن يعتنق مفاهيم التميز عقيدة ونمط إدارة ومنهاج ،ولا سيما أن القطاع العام هو أكبر مقدم للخدمات وهو المُشرع للسياسات والمُنظم لعمل القطاعات، وهو المسؤول عن دفعة عجلة الاقتصاد، والحفاظ على الاستقرار والرفاه وتحقيق جودة الحياة ، وهذا كله لن يكن أن يحدث لولا تبني مفاهيم التميز والعمل بها.
وفي البداية لا بد من التأكيد أن التميز ليس مجرد موضة ولا عصا سحرية ولا وصفة سريعة التحضير يطلبها البعض لدى مكاتب الاستشارات لتجهيز الملفات للمنافسة على جوائز التميز التي تنظم على أرفع المستويات الوطنية أو الدولية، التميز ليس مجرد اقتناء الأدوات والتقنيات، وإنما المحك في الإرادات وليس في الإمكانات، والشاهد أن كثيراً من المحاولات نسخ تجارب التميز باتت في الفشل لدى محاولة بعض المنظمات استخدام نفس الأدوات التي تستخدمها المنظمات المتميزة دون النظر إلى أعماق الجبل الثلجي الظاهر في وسط بحار الأعمال ؛ ذلك لأن التميز ليس مجرد تقنيات ولا عبارة عن صندوق أدوات وإنما هو عقيدة وقيم تحكمه مجموعة مبادئ ومرتكزات تنعكس على البرامج والسياسات ووضع الخطط وترجمتها بالممارسات وتمتحنها المواقف والمحكات، ولا نبالغ بالقول إن التميز هو ذاك الحمض النووي (DNA) للمنظمة الذي يصعب نسخه أو تقليده وإن كان له أسس ومرتكزات إلا أنه روح تسري في عروق المنظمات فهو نمط وأسلوب حياة وله طقوس وأعراف، قصص نجاح حقاً لها أن يحتفى بها.
التميز أيديولوجية يعتنقها أبناء المنظمة الواحدة، إنها رحلة لا نهاية لها تحكي لنا حكاية منظمة فريدة لا مثيل لها، إنها وسيلة لاستقطبات الموهوبين والتنقيب عن المتميزين في الأسواق، والأهم من ذلك هو القدرة على المحافظة على المتميزين وإدارة الموهوبين واستثمارات طاقاتهم واستثارة مكنوناتهم بما يخدم أهداف المنظمة وتحقيق أهدافها الاستراتيجية، فالمنظمة المتميزة موظفوها متميزون يقدمون منتجات وخدمات متميزة، تمتد ممارسات التميز في تنظيم العلاقة مع الموردين وأصحاب العلاقة بحيث تسود الثقة المتبادلة بين الأطراف والعقود طويلة الأمد ليعود النفع للجميع وفق قاعدة الربح للجميع. ففي المنظمة المتميزة يربح أصحاب المصالح، والموظفين، والمتعاملين، والموردين ؛ بل حتى المنافسون ينعمون في تجربة التنافس مع المنظمة المتميزة والتعلم منها.
ومع ذلك فإن التميز ليس مجرد أحلام وردية وأمنيات هلامية ؛ إنها عمل دؤوب مستمر ومتواصل ومتراكم ولابد أن يكون حامل الراية صبوراً وحليماً دون العجلة أو محاولة القفز لتحقيق الكسب السريع ، التميز فلسفة راسخة تضبطها مجموعة صارمة من المبادئ والمرتكزات والمنهجيات تلتزم اتجاهها الإدارة العليا كنمط للقيادة وتوجيه الأفراد لتحقيق سعادة للمتعاملين .
التميز سفينة ربانها وكلاء التغيير يملكون البوصلة ويقطعون البحر العريض بايمان راسخ وخطى واثقة يقاومون الرياح والأعاصير ، يحدثون الفرق والأثر العظيم ويحافظون على هذا الزخم على المدى الطويل.
والثقافة هي الطريقة التي تعمل بها المنظمة الأشياء، وهي ذات تأثير كبير على سلوك العاملين، وإن القيادة هي المحرك لدفع ثقافة التميز، ولتحذر القيادة أن تقول ما لا تفعل؛ وإنما القدوة بالافعال والسلوك لا بالأقوال والنصوص، وإن أذن الموظف تصم لا تسمع عندما تؤمر بغير ما ينفع اصحاب العلاقة ومن يتأثر.
المنظمة المتميزة أبناؤها أمة واحدة، ورؤيتهم واحدة، قيمهم واحدة وموحدة لتحقيق المكاسب والربح للجميع، كل موظف لديه الدراية ما هو المنتج الذي تقدمه المنظمة ومدى مقدار مساهمته الفردية لتقديمها ، فالموظف(مهما اختلف مستواه الإداري ) فإنه يمتلك المعرفة الكافية لما يريده العميل، وتوقعات المتعاملين وتفضيلاته، ويحاول تجنب نقاط الألم التي قد تؤثر على تجربة المتعاملين، في المنظمة المتميزة هناك مقاييس واضحة ومحددة ومعلن عنها للرصد والمتابعة والقياس مع وجود منظومة للمساءلة يخضع لها الجميع باختلاف المستويات الإدارية والفنية.
عند القول إن التميز صناعة فإننا نعني أن هناك منظومة متكاملة لتحقيق التميز تتطلب امتلاك اتجاهات وقيم ومعارف ومهارات تنعكس في الممارسات والأساليب المستخدمة، والتميز علم قائم على المفاهيم العلمية وله فنون تمارس في الممارسات العملية، وما جوائز التميز إلا أداة استرشادية لتعليم الناس مفاهيم التميز ، فالعلم بالتعلم ، والتميز بمحاولات بناء القدرات وتحقيق النتائج .
يجدر القول في المنظمة المتميزة لا مكان لتحقيق المكاسب العاجلة على حساب الغايات طويلة الأمد، ولا مجال للبحث عن كبش الفداء ولابد من نبذ ثقافة اللوم عند وقوع الأخطاء ؛ لأن المنظمة تعمل في نظام متكامل تتفاعل فيه جميع مكوناته لتحقيق الأهداف وليس مجرد أفراد يعملون في وحدات تنظيمية كالصوامع منعزلة أو في جزر منعزلة بعضها عن بعض.
التميز يحارب التستر عن الأخطاء ويشجع الأفراد في اكتشاف الأخطاء كي تظهر على السطح عبر الإدارة المرئية، والعمل على حل المشكلة من جذورها دون التوقف عند الأعراض أو ثقافة لوم الأفراد.
التميز قائم على احترام الأفراد باعتبارهم المورد الثمين لتحقيق أهداف المنظمة، فالمظلوم لا ينتمي وفاقد شيء لا يعطيه، فمهما امتلكت المنظمة من مقدرات ومكائن فإنها تبقى معطلة إذا شلت اليد التي تشغلها بالتوبيخ والتعنيف وحرمان الحقوق وتضييع فرص التقدم، فالموظف الخائف لن يستطيع تشغيل الآلة ، والموظف المُعنف لن يستطيع أن يرسم ابتسامة زائفة للزبون ، الخوف هو الكابوس الذي يطرد الإبداع والتميز والظلم هو الطامة الذي يفكك أركان المنظمة وينخر في جذورها.
وأخيرا يمكن القول إن صناعة التميز علم وفن، له مبادئ وممارسات، من خلال امتلاك رؤية بعيدة مع جهود يومية ونجاحات متراكمة، قائم على قدرات فردية وعمل جماعي، واحترام الأفراد مع انضباط العاملين؛ لتحقيق الربح للجميع.
د.كفاية عبدالله/ اختصاصي التطوير المؤسسي
ديوان الخدمة المدنية الأردني